دراسة حول سلطة الأبوّة… النصّ والعلاقات النصيّة عند العرب 2
كتب د. مصطفى بيومي عبدالسلام: لم تكن قضية السرقات الأدبية في مجملها سوى الوجه الآخر لفكرة الإسناد أو التعيين، والبحث عن نسبة النص إلى صاحبه ومؤلفه الذي يعود إليه فعل الخلق والإبداع لذلك النص. ورغم أن فكرة السرقات في النقد العربي برزت على نحو لافت تحت وطأة الصراع النقدي الذي دار حول الشعراء القدماء والشعراء المحدثين، فإن ما يحكم اشتغالها، على ما أتصور، هو فكرة الإسناد والتعيين.
إن النقاد المناصرين للشعر القديم في دفاعهم عن الشاعر القديم/ المطبوع اتهموا الشاعر المحدث، الذي خرج على التقاليد الفنية للقصيدة القديمة، بهذه التهمة التي تؤكد على أن الشاعر المحدث لم يأت بجديد إنما سرق معاني المتقدمين من الأشعار.
لم يكن الهدف معاينة التجديد وبحثه، بل كان الهدف أن هذا الشاعر لم يجدد إنما سرق وتكلف وأسرف. آمن الشعراء المحدثون بأن «الحاضر الذي يعيشونه ليس الماضي بعلاقاته أو أنسقته أو قيمه، كما آمنوا بأنهم لا يمكن أن يصوغوا هذا الحاضر المتغير، جمالياً، معتمدين على السماع أو التقليد. كان الحل عندهم مرتبطاً بالاستجابة إلى إدراكهم الخاص، حتى لو تجاوز هذا الإدراك أشكال الإدراك القديمة».
ماذا يفعل الناقد التقليدي، إذن، حيال هذا الشعر، وهو لا يؤمن بقوة الحاضر واختلافه عن الماضي، ولا يؤمن بالتغيير الذي صاغه هؤلاء الشعراء جمالياً؟ إنه لن يفعل شيئاً سوى أن يقوم بعملية فحص واستقصاء لهذا الشعر الجديد المحدث، وسوف ينتهي من عملية الفحص والتقصي إلى إثبات أن هذا الشعر لم يأت بجديد بل سرق معاني المتقدمين السابقين وأسرف وتكلف. وربما نفهم كثيراً لماذا أجهد الآمدي نفسه في تتبع وتعقب سرقات أبي تمام، لأن أصحاب أبي تمام، أو نقاده الذين استجابوا للتغيير الذي أصاب الشعر العربي في ذلك الزمان، زعموا، كما يقول الآمدي أن أبا تمام هو «أول سابق، وأنه أصل في الابتداع والاختراع، فوجب إخراج ما استعاره من معاني الناس». وأما البحتري فلم يُعنَ الآمدي كثيراً بتتبع سرقاته واستقصائها جميعاً. يكتب الآمدي: «ولم أستقص باب البحتري ولا صرفت الاهتمام إلى تتبعه، لأن أصحاب البحتري ما ادعوا ما ادعـاه أصحاب أبي تمام، بل استقصيت ما أخذه من أبي تمام خاصة».
في منتصف القرن الرابع تقريباً، بدأ الذوق النقدي يتقبل شعر المحدثين مثلما يتقبل شعر القدماء، لكنه لم يتخل على الإطلاق عن فكرة أنساب النصوص. وبدأ الصرع النقدي بين القدماء والمحدثين يتخافت بظهور المتنبي الذي كان «مصدر حيرة كبيرة للذوق والنقد معاً، فها هو شاعر يجمع بين القديم والحديث، يجيء بالجزالة والقوة والبيان على خير ما كان يجيء به القدماء، ويغوص على معاني الحياة الإنسانية غوصاً بعيداً، ويضمن شعره فلسفة حياة وثقافة تنتمي إلى القرن الرابع».
ماذا يفعل النقاد أمام تلك الحيرة، وهذه الظاهرة الشعرية التي جمعت طرائق القدماء وطرائق المحدثين؟ كان النقاد يتحدثون عن الصراع بين القدماء والمحدثين أو يوازنون بينهما، ولم تكن أدواتهم النقدية ومقاييسهم تطورت بطريقة كافية لمواجهة هذه الظاهرة الشعرية الجديدة ومحاولة تأويلها وسبر أغوارها.
المتنبي، على ما يقول إحسان عباس، صدم الذوق النقدي مرتين: «مرة بشخصه المتعالي المتعاظم، ومرة بجرأته في الشعر: جرأته التي تركب المبالغة حتى تمس العقيدة الدينية، وتنتحل آراء فلسفية غريبة وتستخف بأصول اللياقة والعرف في مخاطبة الممدوحين ورثاء النساء، وتتصرف باللغة تصرف المالك المستبد». تلك الصدمة دفعت النقاد إلى دخول معركة جديدة حوله، وانقسموا فريقين: أنصار وخصوم، وصفهم القاضي الجرجاني بقوله: «من مطنب في تقريظه، منقطع إليه بجملته، منحط في هواه بلسانه وقلبه، يتلقى مناقبه إذا ذكرت بالتعظيم، ويشيع محاسنه إذا حكيت بالتفخيم، ويعجب ويعيد ويكرر، ويميل على من عابه بالذراية والتقصير، ويتناول من ينقصه بالاستحقار والتجهيل فإن عثر على بيت مختل النظام، أو نِبَه على لفظ ناقص عن التمام التزم من نصرة خطئه، وتحسين زَلَله ما يزيله من موقف المتعذر، ويتجاوز به مقام المنتصر. وعائب يروم إزالته عن رتبته، فلم يسلم له فضله، ويحاول حطه عن منزلة بوأه إيّاها أدبه فهو يجتهد في إخفاء فضائله، وإظهار معايبه، وتتبع سقطاته، وإذاعة غفلاته».
اتفق الفريقان على أن المتنبي شاعر عظيم، لكن الأنصار اكتفوا في تلك المعركة النقدية بتسجيل الإعجاب وكلمات الإطناب والتعظيم، ولم تكن أدواتهم مهيأة للدفاع عن شعره كما ينبغي أما الخصوم فتوجهت همتهم إلى إزالته عن رتبته، وإظهار العيوب، وإشاعة السقطات، وأدواتهم في ذلك معروفة سلفاً، وهي اتهام شعره بأنه «مرقعة مصنوعة من معاني الآخرين».
اجتهد الخصوم في تتبع شعر المتنبي واتهامه بالسرقة والسطو على شعر الآخرين. إن فضل الشاعر في نظر هؤلاء الخصوم يعود إلى ما ابتدعه واخترعه من معاني لا تشبه معاني الآخرين، وإذا كان الشاعر كذلك، أو إذا كان المتنبي كذلك، فإنه معرض لخطر الهجوم عليه واتهامه بالسرقة.
برزت قضية السرقات في النقد العربي القديم في إطار الصراع النقدي الذي دار حول شعر القدماء والمحدثين، وفي إطار الخصومة الضارية التي نشبت حول شعر المتنبي، لكن محمد مصطفى هدارة في بحثه حول مشكلة السرقات في النقد العربي يرى أن فكرة السرقات أثيرة لدى الناقد القديم، إذ تداول النقاد هذه الفكرة قبل الصراع وتلك الخصومة التي أشرت إليها سلفاً. يكتب هدارة: «لفظ السرقات شائع بين النقاد منذ وقت مبكر، مما يدل على أنه اصطلاح متفق عليه فيما بينهم. فقد مر بنا كتاب ابن كناسة المتوفى 207هـ الذي سماه «سرقات الكميت…»، ومحمد بن سلام، .. وهو من أوائل النقاد الذين نعرفهم في نقدنا العربي، استخدم في كتاب الطبقات لفظ السرقة أيضاً. ومن المدلولات الخاصة بالسرقات التي استخدمها ابن سلام، وأصبحت من المصطلحات المتفق عليها بين النقاد «الاجتلاب» و»الإغارة». وابن السكيت، توفى سنة 240هـ، استخدم … لفظ السرقات في كتابه «سرقات الشعراء وما اتفقوا عليه». أما الجاحظ، توفى سنة 255هـ، فقد استخدم لفظ «الأخذ» يعني به السرقة، بل استخدم لفظ السرقة بنصه في كتاب الحيوان. والزبير بن بكار بن عبد الله القرشي، توفى سنة 256هـ، استخدم … لفظ الإغارة في كتابه «إغارة كثير على الشعراء». أما ابن قتيبة، توفى سنة 276هـ، فهو إن كان لم يستخدم لفظ السرقات بصورة واضحة – إلا أنه استخدم مدلولات خاصة بها لا تظهر حياده .. أو تحرجه من استخدام هذه الكلمة، لأنه استخدم اصطلاحاً يشير إلى أقبح أنواع السرقات وهو «السلخ» كما استخدم أيضاً لفظتي الاتباع والأخذ».
إن فكرة السرقات أثيرة لدى الناقد القديم، وهي تستند بلا شك إلى فكرة البحث عن أنساب النصوص وانتمائها إلى مؤلفيها. وإن كانت الفكرة برزت بشكل واضح في معالجة النقاد لقضية القدماء والمحدثين والخصام النقدي حول المتنبي، فإنها ليست بعيدة عن الممارسة النقدية قبل ذلك التي ترتكز على تصورات الناقد ومفاهيمه عن النص الذي يرتد إلى صاحبه ارتداد العلة إلى المعلول.