«ذكريات وأوهام»… دلالات مكانية متباينة تنزع نحو العروج إلى السلّم الفنّي!
النمسا ـ طلال مرتضى
لعلّه اليتم، الفقد الأكثر قسوة، عندما تعشق، تشتاق، تحنّ، وتعلم أن من تودّ رؤيته قد يكون في الجوار، ولربما بينك وبينه ستارة واهية، ثم لا تجد وسيلة لإسدال هذه الستارة. كيف تدهمك السنين على حين غرّة وأنت لم تفِ دَيناً عظيماً لم يزل يثقل كاهل روحك؟ أليس من الغبن أن تعيش غير عشق، لا يشبهه عشق آخر وتضيعه منك المصادفات؟
كل ما أنتم به الآن غيض من فيض، فيض الحبّ، الوفاء الذي لا يخبو عسيسه في الروح ولو غطاها رماد الوقت.
آسيا «خولة» عبد الهادي في مرويتها «ذكريات وأوهام» الصادرة عن «دار الأيام للطباعة والنشر والتوزيع» الأردنية عام 2016، تسلّط الضوء بانكشاف تام من خلال الحكاية التي اجترعتها حاملاً لعملها الجديد ـ والتي بدأت سردها خلفاً بفاعلية «فلاش باك» لتجلي عنها غباشة الاندثار ـ وهي قصة الغالبية من العائلات الفقيرة التي تهاجر من أجل تحسين أوضاعها، لتتشعب خيوطها وتفاصيلها الغاوية بفاعلية السرد المتهادي، في محاولة لمعادلة الوقت وافتعالات الحكاية. وهنا تبدأ الكاتبة بغمس بصمتها الخاصة والتي ينكرها كثيرون من الرواة، بحجة إن الحكاية محض مصادفة والشخوص افتراضيون ليس إلا. وعَوداً للمقارنة بين الروائية الفلسطينية الأصل التي هجرت قسراً إلى الأردن ليبقى مفتاح بيت جدّها معلقاً في ذاكرتها ما عاشت.
إنّ متتبع آلية السرد يتلمس عن كثب بأن الكاتبة لعبت على حساسية الأبطال وتعلّقهم بالمكان الذي يصبح جزءاً منهم في كلّ حالة انتقال. حالة الاندماج مع المكوّنات الجديدة. الحكاية بالمجمل قصة أرض أو مكان، المكان الفلسطيني عالق في الذاكرة، والبيت في الأردن هو جزء من الحياة، وبيت الغربة، ومكان العمل، كان ذلك دأبت الكاتبة على محاولة الصراخ به، لا شيء يعادل المكان، الفضاء الكينونة.
ولا أنفي كقارئ أن غواية الحكاية جعلتني ألهث للوصول إلى القفلة كي أرضي غرور ذائقتي القرائية، والتي أفجعتني عند الوصول، عندما طوت مرويتها برتابة، أي وكأنني كنت في حضرة فيلم هندي. حيث ينتهي إما بانتحار البطلين أو يتزوّجان، أو دعني أقول إن رِتمها أتى متهادياً مع قصص الجدّات لأحفادهن.
لست أدري إن أرادت الروائية تحميل مرويتها فنياً أم لا؟
وكي لا ألحد عليها حقوقها، كان لا بدّ من الإيغال في عمق النصّ لفكّ شفيراته المطلسمة والوقوف على أهمّ دوالّه، والتي كنت أقبض عليها، حيث تجلّت في اشتغالات الشخوص إينما تواجدوا، وحيث يتركون أثراً وبصمة. وهنا أستنجد بمقولة الروائية العربية نجاح إبراهيم: «لا نغالي حين نقول إن المكانية لا تتشكّل إلا من خلال الشخصيات الحاملة للأحداث، إذ تكشف عن عمق وقع المكان».
وبالتأكيد، هذا ما وددت قوله، عن تأثير الفرد بالمكان وبالعكس، وكيف يتم خلق ارتباط حسّي وروحي، من دون قطع الحبل السرّي بالمكان الوطن الأمّ. وهذا ما تشير إليه «السيميوطيقا» وأقصد علم العلامات، والتي تجاوزت دراساتها ماديات المكان إلى دلالاته، بالتعريف بأنه: ليس فضاء فارغاً، بل هو مليء بالكائنات والأشياء التي هي جزء منه، وتضفي عليه أبعاداً خاصة من الدلالات. بالعودة إلى مقولة سيزا قاسم في القارئ والنصّ العلامة والدلالة .
أسيا «خولة» عبد الهادي الروائية، عمدت في معمار محكيتها، المرصوف بمشهديات متداخلة، متواترة، حيث لا يستطع القارئ نسل أيّ لبنة من هذا المعمار، والذي لو أن الأمر قد حدث، سوف تنهار القصة الحامل، وهي من بدع تشكيلات السيناريو قبل تحوّل الهالة السردية إلى منطوقة.