مأساتِي مع التفتيش المركزي…

عدنان الشّهال

إنّ الخلاف الحادّ على الصلاحيّات بين رئيس التفتيش المركزي أنطوان عوّاد والمدير العام المالي رضا الدّنا أعادني بالذاكرة إلى مأساتي مع التفتيش المركزي أواسط السّبعينات من القرن الماضي، إذ كيف يتحوّل الموظّف النّزيه المستقيم الذي حقّق للدّولة مكاسب ماليّة هامّة إلى متّهم بالارتشاء وسرقة أموال الدّولة!

وهذه قصّتي مع التفتيش المركزي:

في أواسط السبيعينات من القرن الماضي قام رئيس الهيئة المؤقّتة بإدارة منشآت النفط في طرابلس IPC وخلال وجوده في باريس، بعقد صفقة لشراء مليون برميل من النفط الخام مُعدّة للتكرير في مصفاة طرابلس.

وتبيّن أنّ النفط المُتعاقَد على شرائه من نوعيّة سيّئة جداً جداً وغير صالحة للتكرير في المصفاة، وكان هناك مُعترضون على عقد هذه الصفقة فتقدّموا بشكوى إلى التفتيش المركزي الذي ألّف لجنة تحقيق، والغريب أنّ إسمي كان بين المشكو منهم، لذلك راجعتُ رئيس التفتيش المركزي آنذاك الدكتور خطار شبلي الذي أكّد لي أنّه ليس لي علاقة بالموضوع إطلاقاً، ولكن بعد نقل الدكتور خطار شبلي إلى منصب آخر، عُيّن قاضٍ آخر في رئاسة التفتيش المركزي ه. ش ، وعُدتُ وراجعته فيما نُسب إليّ زوراً وأكدتُ له أنّ الصفقة عُقدت من شخصٍ آخر في باريس وأنّني كنتُ حينها في بيروت وليس لي علاقة بتلك التهمة ولكنّه كان سلبيّاً جداً معي، وبنتيجة التحقيق الذي قامت به اللجنة، أصدر رئيس التفتيش المركزي قراراً بتأخير تدرّجي لمدّة ثلاثين شهراً، وعلمتُ في ما بعد أنّ رئيس التفتيش اعتمد في تحقيقه على جملة إشاعات تقول بأنّني أنشأتُ مع رئيس الهيئة المؤقتة بنكاً في باريس، وأنّ هناك شركة بترول كبيرة ستعيّنني عضواً في مجلس إدارتها.

ومن المؤسف أنّ أحد المحامين الذي باشر بوضع لائحة الدّفاع عنّي اعتذر عن إكمال المهمة.

وهكذا تصبح بعض قرارات التفتيش المركزي مستندة ليس إلى القانون ولا إلى أدلة، وإنّما استناداً إلى إشاعات أطلقها مُغرضون.

وردّاً على ما لحق بي من ظلم، أوردُ في ما يلي ما أنجزته خلال تمرّسي بالوظيفة كرئيس لدائرة المحروقات، ثمّ رئيساً لمصلحة شؤون النفط بالإنابة ، وأهمّ الإنجازات التي تمّت في أيّامي على يد صائب جارودي استناداً إلى قيامي بكشف خدعة كانت تقوم بها شركة نفط العراق Ipc لبناء وحدة تكسير ترفع نسبة البنزين 30 دون موافقة الدولة وذلك أثناء زياراتي المتكرّرة للشركة في طرابلس، كنتُ كلما أرفع تقريراً إلى الوزارة محذراً من إقدام الشركة على بناء وحدة التكسير دون موافقة الوزارة كان هناك من يقدّم تقريراً مضاداً يضلل الوزارة، لذلك عمدتُ إلى طريقة لا يرقى إليها شكّ وهي قيامي بتصوير المعدّات ومكان إنشاء وحدة التكسير وذلك بواسطة كاميرا صغيرة مينولتا،Minolta ، وذلك بدءاً من نافذة مدير المصفاة حيث التقطت صورة للساحة المخصّصة لبناء الوحدة، وعند انتقالي لزيارة المدير العام للمنشآت وجدتُ إلى جانب الطريق معدّات ضخمة مغطاة بإحكام، ولما سألت أحد الفنيّين قال لي إنّها معدات لبناء وحدة التكسير، وأضاف إنّ هناك معدّات أخرى في مرفأ طرابلس، لذلك توجّهتُ إلى إدارة المرفأ والتقطتُ عدداً من الصور العائدة لبناء وحدة التكسير، ومن أهمّ المعدّات التي وجدتها صندوق كُتبَ عليه العبارة التالية: مصفاة طرابلس 152، وعبارة ثانية أيضاً هي: Cut Craker ممّا قطع الشكّ باليقين.

وفي اليوم التّالي، اخترتُ بعض الصّور المُعبّرة وأرسلتُها بكتاب ذي طابع سرّي إلى الوزير عبر التسلسل الإداري. حينئذٍ، اتّخذ الوزير عدّة إجراءات للتحقيق في هذا الأمر، ومنع الشّركة من استعمال أيّة معدّات من مرفأ طرابلس.

أمّا نتائج الكشف عن خدعة الشّركة فهو ما يلي:

في 18 آب 1970 انتقل سليمان فرنجيّة من وزارة الاقتصاد إلى رئاسة الجمهوريّة وعُيّن الدكتور صائب جارودي وزيراً للاقتصاد، وذلك بعد استدعائه من الكويت حيث كان يعمل خبيراً في الشّؤون الاقتصاديّة والماليّة، وحين تسلّم الوزير مهامه في وزارة الاقتصاد كان أوّل عمل قام به هو استدعاء الشركة للبحث في عمليّة إنشاء وحدة التكسير بدون موافقة الوزارة ومطالبتها بوضع اتفاقيّة جديدة تعوّض للدّولة عن الغُبن الذي لحق بها سابقاً. وبعد شهور من التفاوض تمّ عقد اتّفاق هو الأوّل من نوعه في لبنان مع شركات النفط، ونصّ الاتفاق على:

1 تقديم 30 مليون ليرة دفعة أولى للدّولة، عوضاً عن الغُبن الذي لحق بها سابقاً.

2- حسم 55 سنتاً من سعر البرميل المخصّص للتكرير في مصفاة طرابلس.

3- استمرار نسبة الحسم مع ارتفاع أسعار النّفط العالمي ثورة الأسعار بدءاً من عام 1970 .

4- تعديل نسبة أرباح الشركة إلى 13 بدلاً من النّسبة السّابقة المرتفعة.

وبالإضافة إلى ذلك فقد قمتُ شخصياً بإنجازات عادت بمكاسب ماليّة إلى الخزينة:

1 – تحويل البترول من الوزن إلى الحجم

لافت خلال عمليّات الرّقابة أنّ مصفاة مدريكو تعتمد وحدة الحجم البرميل في جميع عمليّاتها، فيما كانت مصفاة نفط العراق في طرابلس تعتمد عدّة تحويلات:

أ تحويل برميل النفط إلى وحدة الطن الطويل حسب النّمط الإنكليزي .

ب – تحويل الطنّ الطويل إلى الطنّ المتري حسب النظام اللبناني .

ج – بيع منتجاتها بوحدة الليتر وحدة الحجم .

والمعروف أنّ كلّ عمليّة تحويل تعتمد على الثّقل النّوعي للمادّة ودرجة الحرارة، ومع تفاوت درجة الثّقل النّوعي بين مادّة ومادّة وتقلبات درجة الحرارة تحدث فروقات في دفع رسوم الجمارك، لذلك لجأتُ إلى الأمور التالية:

– سحبتُ من مستودعات الوزارة وصولات الجمارك العائدة إلى شركات التوزيع العائدة للسّنة الفائتة، وفي عمليّة حسابيّة سهلة حصلنا على فروقات في تحديد الرّسوم يُقارب المليون ليرة من المفروض أن تصبّ في خزائن الدولة بينما هي فعليّاً كانت تصبُّ في خزائن شركات التّوزيع، لذلك اقترحتُ على الوزير الدكتور سعيد حمادة إصدار مذكرة إلى إدارة مصفاة العراق في طرابلس اعتماد وحدة الحجم في جميع عمليّاتها في التّكرير والتّوزيع وفي حساباتها.

2 – تعبئة الصّهاريج

كانت عمليّة تعبئة صهاريج المحروقات إلى محطات التوزيع تتمّ كما يلي:

يُسمح لسائق الصّهريج أن يراقب عمليّة التعبئة التي تؤدّي إلى إفراغ خزّانات الصّهريج من الهواء، فكان السّائق يضع تحت أنبوب الخزّان وعاء، وعند التعبئة يتمّ سحب كميّة لا بأس بها من المحروقات إلى حين يفرّغ الهواء منه، كما لا يُعلم الوقت الذي تحتاجه عمليّة إفراغ الخزّان من الهواء، وكم سيحصل السّائق على كميّة من المحروقات خلال عمليّة التفريغ هذه دون وجه حقّ.

ولذلك لا يمكن تقدير الكميّات التي تخسرها المصفاة، وبالتالي الدولة من جراء عمليّة التعبئة تلك. وبعد المماطلة تمّ التوافق مع إدارة المصفاة لتركيب مواسير على رأس كلّ خزّان بحيث يخرج الهواء مباشرة أثناء التعبئة.

ومن الإنجازات الهامّة التي كان لي فضلٌ في تحقيقها أيضاً، على أثر تأميم العراق لشركة نفط العراق IPC ، هو الاستناد إلى الاتّفاق الأساسي مع شركة نفط العراق بمنحها امتيازاً في لبنان، حيث تنصّ إحدى المواد أنّه: في حال تخلّت شركة نفط العراق IPC عن امتيازها فإنّ جميع منشآتها تعود ملكاً للدولة، علماً بأنّه كان هناك اعتراض على رأيي بأنّ الشركة لم تتخلَّ عن امتيازها في لبنان، وكان جوابي الذي أقنع دولة الرئيس صائب سلام أنّ الامتياز الأساسي للشركة في العراق قد زال بفعل التأميم، لذلك زال الامتياز الفرعي للشركة في لبنان.

وأخيراً، قرّرت الحكومة بموافقة رئيس الجمهوريّة سليمان فرنجيّة تملّك جميع ممتلكات شركة IPC في لبنان دون مقابل، وأبلغت الشركة بذلك رسمياً بموجب القرار الصادر بتاريخ 5/3/ 1973، بينما قام العراق بالتعويض على الشركة لقاء التأميم، وكذلك فعلت سورية عندما أمّمت شركة نفط العراق فرع سورية في اليوم التالي.

بعد كلّ ذلك، ألا أستحقُّ وساماً بالشّكر لما قدّمتُ لبلدي وللدّولة من خدمات وإنجازات بدلاً من التجنّي واتّهامي زوراً!

هذه هي مأساتي مع التفتيش المركزي والظلم الذي لحق بي خصوصاً مادياً من جرّاء اتّهامي زوراً بالارتشاء وسرقة أموال الدّولة.

أخيراً وقد جاوز عمري التسعين أسامح كلّ من أساء إليّ سواء بطريقة مباشرة أم غير مباشرة…

المدير العام للنفط سابقاً

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى