ثروة النفط والغاز: خفايا الصراع على الشرق الأوسط
أسامة العرب
كانت البداية عام 1995 حين رسم فلاديمير بوتين استراتيجية شركة «غاز بروم» لتتحرك عبر شبكة ضخمة ومعقدة من خطوط الأنابيب تمتدّ من روسيا مروراً بأوكرانيا وبيلاروسيا إلى مجمل أوروبا الشرقية سابقاً، وصولاً إلى ألمانيا وبلجيكا، لتوزع كمّيات ضخمة من الغاز السائل تبلغ 420 مليار طن سنوياً، خصوصاً بعدما صدرت اتفاقية كيوتو سنة 1992، وطبّقت الدول الأوروبية إجراءاتها الحازمة للحدّ من تلوّث الجوّ عبر اللجوء إلى الغاز كمصدر أول للطاقة. وأبرز خطوط هذه الشركة هما خطّا «السيل الشمالي» و«السيل الجنوبي»، اللذان يتجهان إلى أوروبا عبر بحر البلطيق والبحر الأسود. فخط السيل الشمالي افتتح في 2011 «نورث ستريم»، ويتّجه عبر بحر البلطيق نحو ألمانيا مباشرة بطول 1224 كلم، ويتشكّل من أنبوبين، طاقة كلّ منهما التمريرية 27.5 مليار م3 سنوياً. وعندما يُنجز نهائياً ستتمكّن روسيا من نقل غازها إلى كلّ من الدانمارك وهولندا وبلجيكا وبريطانيا وفرنسا وبولندا وتشيكيا، ودول أخرى انطلاقًا من ألمانيا، وسيوزّع الغاز على نحو 26 مليون منزل في أوروبا. أما خط السيل الجنوبي «ساوث ستريم»، فانطلق في حزيران 2007، كمشروع مشترك بين شركتي «إيناي» الإيطالية و«غازبروم» الروسية، لنقل الغاز الروسي إلى جنوب أوروبا ووسطها عبر البحر الأسود وبلغاريا.
من الواضح أنّ بوتين قرأ الخارطة العالمية جيداً، وعلم أنّ سقوط الاتحاد السوفياتي كان سببه غيابه عن السيطرة على موارد الطاقة العالمية، لذلك كانت سياسته الجديدة تركّز على حقل الطاقة الرئيسية في القرن الواحد والعشرين، وهو الغاز، بعد تراجع احتياطي النفط العالمي، خصوصاً الطاقة النظيفة. كما تتسارع خطى روسيا والصين نحو بناء تحالف استراتيجي، استناداً إلى معاداة كلّ منهما للولايات المتحدة ورغبتهما في مواجهة سيطرة الأخيرة على موارد الطاقة. لهذا، وبعد فترة وجيزة من ضمّ شبه جزيرة القرم لروسيا، وقعت شركة «روسنِفط» المملوكة لموسكو، وشركة البترول الوطنية الصينية، صفقةً تاريخية تعطي الصين حصة من حقل بترول بشرق سيبيريا. كما وقعت كلّ من شركة «غازبروم» الروسية والشركة الصينية نفسها، اتفاقاً مدته 30 عاماً وقيمته 400 مليار دولار. وعرض بوتين جزءاً من حقل نفط «فانكور»، للشركة الصينية ذاتها في اتفاق قالت «فاينانشال تايمز» إنه يمثّل تحوّلاً استراتيجياً مفاجئاً. أيّ أنّ بكين ترغب أيضاً بإبراز نفسها كلاعب قوي في مجال النفط والغاز، لذلك تتصاعد مواقفها وتأخذ مداها ضمن محور مواجهة القطب الأميركي.
إلا أنّ أميركا لم تقف مكتوفة الأيدي، بل عمدت لمواجهة هذا النفوذ الروسي المتصاعد، حيث أنّ السيطرة على مناطق الاحتياطي الغازي في العالم تعتبر أساس الصراع الدولي والإقليمي. فجاء خط «نابوكو» ليكون أول مبادرة من الولايات المتحدة الأميركية تهدف لكسر الهيمنة الروسية على سوق الغاز في أوروبا، من خلال مدّ أنبوب لنقل الغاز من آسيا الوسطى والقوقاز إلى أوروبا عبر تركيا، بعيداً عن الأراضي الروسية.
غير أنّ موسكو تبنّت خطة استراتيجية دفاعية بثلاثة محاور وذات أبعاد ودوائر حلزونية تتقارب في المركز وتتباعد في زمنها التنفيذي، وذلك لمجابهة مشروع «نابوكو» وتفريغه من جدواه من النواحي القانونية والاقتصادية والسياسيةً، وقد جاء المحور الأول منها عبر إثارة نزاع الملكية القانونية حول بحر قزوين، وتبنّت تعريف حوض قزوين على أنه بحيرة متجدّدة بمياه أنهار الفولغا، وبناء على ذلك فالقانون الدولي يعطيها الحقّ بتقاسم مياهه وثرواته بالتساوي مع الدول المحيطة به، وينصّ القانون الدولي على ذلك. كما جاء المحور الثاني في الاستراتيجية الدفاعية الروسية عبر بناء قوة روسية في شراء كامل للغاز المنتج في أواسط آسيا وبالتالي بيعه عن طريقها وعبر أنابيبها العابرة للقارات، لهذا دخلت روسيا في عقود شراء غاز طويلة المدى من كلّ حكومات الدول المفترض منها ضخّ الغاز في خط أنابيب «نابوكو»، كتركمانستان التي تنتج حالياً نحو 80 مليار متر مكعب سنوياً. كما دخلت أيضاً بعقود شراء طويلة الأجل مع أوزبكستان التي لديها احتياطي قدره 1.8 مليار متر مكعب من الغاز، حيث قامت بشراء كامل إنتاجها من الغاز في عقد طويل الأجل ينتهي عام 2018، وفي ضوء ذلك انسحبت تلك الدول من أيّ تعهّد لإمداد الغاز عبر خط «نابوكو». بالاضافة إلى كلّ ما سبق، قامت روسيا بتكثيف جهودها لبناء خطوط غاز جديدة، فأعلنت «غاز بروم» أنها ستستثمر في مشاريع غاز من أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا وحتى واشنطن ستجد نفسها في يوم من الأيام تشتري الغاز من روسيا، وأعلنت عن مدّ خط من نيجيريا إلى النيجر فالجزائر، لتسيّل الغاز ثم تنقله إلى أوروبا لاحقا.ً وقامت أيضاً بالاستحواذ على نصف حصة شركة «إيني» الإيطالية في ليبيا، وبدأت بالاستثمار في السودان. وبالتالي، فإنّ الاستراتيجية الروسية بمحاورها وأبعادها المتعدّدة قد نجحت نجاحاً باهراً، فأجهضت مشروع «نابوكو» وجعلته يولد ميتاً بعد أن جففت كلّ المصادر المحتملة لأيّ شكل من أشكال هذا المشروع.
لكنّ الولايات المتحدة وضعت مشروعاً مضاداً، فقرّرت في ظلّ عدم توافر الغاز الآسيوي لخط «نابوكو» أن تقوم بتعويضه من خلال الغاز المتوسطي، وتحديداً من قطر، ومن هنا ولدت فكرة مشروع خط الغاز القطري والذي سيتجه غرباً إلى الأراضي السورية حيث يلتقي بخط الغاز المصري، وحديثاً الإسرائيلي، ثم يتجه شمالاً إلى تركيا، أو يتجه مباشرةً عبر البحر المتوسط إلى أوروبا. كما برزت بعض المناطق العراقية أيضاً، والتي تمّ زرع الإرهاب فيها، كمصدر إضافي للطاقة، إلا أنه كان يحتاج إلى خط أنابيب آمن وبعيد عن النزاعات لتصدير النفط إلى أوروبا عبر تركيا.
ولكن هنا أيضاً ظهر عائق جديد أمام المشروع الأميركي الاحتكاري هذا، ألا وهو رفض سورية وإيران الانصياع لإرادة الولايات المتحدة في إنجاز هذا الملف وفق إرادة ومصالح الدول الغربية ومخطّطاتها، ووقوفها مقابله في الجهة المؤيدة لمصالحها أولاً، وللمصالح الروسية المتحالفة معها ثانياً. كما عرقلت سورية المشروع الأخير كلياً، خصوصاً بسبب تمتُّعها بموقع جغرافي مميّز يعتبر المنفذ الأكبر إلى المتوسط بالنسبة للدول التي ليس لها مخرج إلى البحر، كما بالنسبة للدول التي تريد منفذاً إلى أوروبا عبر تركيا.
وبالتالي، فالوقائع التي تشهدها المنطقة، تدلّ على أنّ الشرق الأوسط برمّته يعيش مرحلة مواجهة الأطماع الأميركية الاحتكارية لموارد الطاقة، ولذلك فإنه تحوّل إلى مسرح للصراع والتجاذب الجيوسياسي العالمي. ومن هنا يمكننا إدراك معنى التركيز الأميركي على النيل من سورية في هذه المرحلة، خصوصاً بسبب موقعها الجيو ـ استراتيجي المهمّ، فهي مفتاح آسيا من خلال الخط الذي يمتدّ من إيران عبر تركمانستان إلى الصين، والخط المقترح، والذي قد يمتدّ من إيران عبر العراق وسورية إلى البحر المتوسط طريق الحرير الجديد . ولهذا، نشر مركز بحوث العولمة، ومقرّه مونتريال، تقريراً بعنوان «القضية دائماً حول النفط وخطوط الأنابيب»، وأشار فيه صراحةً إلى أنّ سورية تسيطر على أحد أهمّ شرايين النفط الرئيسية في الشرق الأوسط، وهذا هو المفتاح الرئيسي لتفسير سبب استهدافها.
محام، نائب رئيس
الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً