ثقافة السُّخرية والتسخيف
ريم شطيح
بالإضافة إلى ثقافة القمع في مجتمعاتنا، تحتلّ ثقافة السخرية والتسخيف الكثير من العقول والجلسات بين الأصدقاء، فيتحوّل أيّ طرح جدّي إلى مادة للسُّخرية في محاولة للتقليل من شأن الطروحات الجدية من جهة، والبُعد عن إبداء الآراء الحقيقية من جهة أخرى. إنه العجز ونتائج ثقافة القمع لعقود وكمّ الأفواه والخوف من الخوض في مواضيع إنسانية مهمة وإبداء الآراء حولها.
فمن إحدى مُخلّفات التشويش على التفكير السليم أن تمّ تسخيف مادة الفلسفة – وهي أهمّ مادة وركيزة الفِكر الإنساني – بإطلاق صفة المُتفلسِف بسُخرية طبعاً على مَن يخوض مواضيع مهمة أساسية في المجتمع. ولكي يرتاح الجبناء ويطمئنوا تمّ ترويج فكرة مُشوّهة تفيد بأنّ مَن يعترض على الأفكار البالية وغيرها ولا يقبل بأيّ طرح بسهولة هو يعترض للاعتراض فقط أو كما استخدموا القول «خالف تُعرَف»! انظروا كم سخيف استعمال هذه الفكرة، وكم ضحلة بُنية هذه الجملة في مجتمع ثمن الكلمة فيه في بلاد السوط والقمع هو ببساطة سيف على الأعناق، ناهيك عن الحرب الاجتماعية والعِداء من المحيط القريب أو البعيد اتجاه الشخص الجريء وقائل كلمة الحق بسبب الجهل والخوف!
كم شجاع ذاك الذي يجاهر بفكرة قد تخسره الكثير من الأبواق حوله أو يكون هدفاً لحكومات أو سلطات. كم شجاع مَن يخالف في مواضيع إنسانية جوهرية بطرح رأيه في زمن هزالة الفِكر وثقافة التسخيف.
إنّ أولى خطوات التغيير في مجتمعاتنا هي بتبنّي فكرة الإعتراض على أنها حالة صحية وضرورة مُلِحّة لتطوُّر المجتمعات والأفكار تِباعاً. ومن المهمّ جداً التخلص من ثقافة السخرية والتسخيف وأخذ المواضيع على محمل الجدية وعلى عاتق المسؤولية الفكرية والإنسانية والإجتماعية للفرد كي يكون مساهماً فعّالاً في بناء المجتمع وشريكاً في التغيير.
نحو البناء
مَن كُنّا نُعوِّل عليهم بعدم الاستسلام وعدم الانجراف في كلّ هذا الضياع والانحراف الذي أصاب البشرية ربما كان علينا الاعتراف أولاً انّ هذه الحرب كالحريق ستأخذ بطريقها كلّ شيء ولن يسلم منها إلاّ من اغتسل بماء الأخلاق والإنسانية وتعمّد بالفكر الحر من البداية، ومن البداية قد غُسِلت العقول والأفكار بالخطابات السياسية الرنّانة المَقيتة وبنِفاق ديني لا مثيل له وبثقافة الواحد الأحد حاكماً كان أو دولة أو منظومة، وتمّ تفريغ العقول من كلّ توجّه نهضوي تطويري.
إنّ الإنسانَ بفطرته ناشدٌ للحرية في أيّ زمان ومكان، والإنفتاح على الآخر والنّقد هما سمات المجتمعات المتطورة والتي لم تصل لهذه المرحلة من دون الانفتاح وخَلق ثقافة تُبيح وتقْبَل النّقد في سبيل بناء الإنسان أولاً قبل بناء البلدان فبناء الإنسان مهمة شاقّة أكثر من بناء الأوطان، لأنّ الإنسان هو الذي يبني المجتمع والوطن وهو الذي سيُرمّم ما بعد العاصفة فما تُخلّفُه الحروبُ من دمار فكري وأخلاقي يفوق الدمار المادي والعمراني بآلاف المرات.
مع أنّ أحلامنا بوطن معافى وعقول سليمة أصبحت كأحلامنا بعالم تتحقّق فيه العدالة الحَقّة والمساواة في غابة لا كلمة فيها إلاّ للسلاح وسط هذا الضجيج من التفجيرات والموت اليومي والانحلال الأخلاقي، يبقى لدينا أمل بالمُتنوّرين وأصحاب الفكر الإنساني رغم أنّ المشهد قاتم والآتي قد يكون أعظم ما لم تَنهَض هذه الشعوب بأنفسها برفع أخلاقها أولاً واحترام الإنسان والإيمان بالديمقراطية والمُواطَنة لإمكانية البناء. فلا تستطيع أمّة أن تحارب عدواً أيّاً كان أو أن تستردّ حقاً أو تنتصرَ لقضية، ما لم تُثقف شعوبها أولاً وتتسلّح بالمعرفة والعلم لكي تخوض معركتها الفكرية والسياسية. شعوبنا لم يُوحّدها الدين، ولا العُروبة، وليس للتاريخ معنى بدون مستقبل.
سلاحُ الشعوب هو المعرفة والعِلم والإيمان بالمستقبل وليس العودة للوراء ليكون البناء على الصخر وليس على الرمل. لنستفِق!