هدى ميقاتي عبر «خوابي الكلام»: الشاعر المسؤول قيمةٌ… ولو غاب طويلاً
جهاد أيوب
منذ سنوات، والشاعرة هدى ميقاتي غائبة، وربما مغيّبة. غائبة لكونها هاربة من الواقع العربي وفوضاوية الزمن الصعب والإنسان المشغول بالسذاجة عن قضاياه المصيرية، ومغيّبة لكونها تؤمن بالمقاومة وبالحقيقة والحقّ والإنسان العربي. وللأسف، غالبية أعلامنا تحارب المثقّف المشغول بعباءة المقاومة والعرب. ومهما كان الغياب، لن نبرّر هجرانها للتواصل الثقافي المسؤول، ولن نسمح أن تبتعد عن مجالسنا وإعلامنا ولحظاتنا، لأننا نحتاج إلى نفحات شعرها الغنيّ بوفاء الشعر. نحتاج إلى صدق تعابير صداقتها الثرية بالإنسان الصافي. نحتاج إلى قوميتها المشرقة في زمن خفوت حروف العرب. نحتاج إلى صوتها إلى جانب شباب المقاومة ونصرة نساء المقاومة وحضن تراب الوطن.
كم سعدنا حينما أطلّت في حلقة تلفزيونية من برنامج «خوابي الكلام» الذي تعدّه وتقدّمه الزميلة الشاعرة عبير شرارة، ويخرجه بسام خويري، ويعرض عبر أثير تلفزيون لبنان، وقد يكون هذا البرنامج الوحيد أو من البرامج القليلة التي تبحث عن المثقّف كي تقدّمه في فضاء العرب اليوم.
تتألم هدى من الوجع العربي، تعتزل الظهور الإعلامي أحياناً بإرادتها، لكنها تكتب الشعر في كلّ لحظة، تلبس الشجر المحروق فيلبسها عناد أرزها كما قالت. تشرب الماء لتروي أرضها، تعانق السماء لتسير مع أحلامها.
هدى ميقاتي في هذا الحوار، هامسة لا تحبّ الصراخ، ناصعة كبياض القلوب الوفية، شفافة كما عَهْدنا بها، وغنية بالمواقف والذاكرة الجملة من دون تجريح وتطاول، كأني بها من زمن آخر لا علاقة له بزماننا.
ترفض شعراء المناسبات، وتصرّ أن تكون هي مناسبة الوطن. تعرف قيمة دورها كشاعرة مدركة أفعالها ومواقفها وحركتها. كتبت الشعر على البحر الطويل بعمر السنوات السبع، ومن دون أن تعلم أنها كتبت الشعر. والدها لم يصحّح لها بل أخبرها أنها شاعرة بالفطرة، فسارت في نهر الشعر حتى اكتشفت بحوره وأمواجه ورمال شواطئه.
تؤمن هدى بحبّ الوطن لكونه الحبّ الأكبر، ويشمل كلّ أنواع الحبّ. وتعتبر الكتابة ملجأها، ولا طقوس لديها حتى تكتب كما يدعي البعض. وحينما تخاطبها الفكرة تختزل الأمكنة، وتركن سيارتها لتغوص في حبر البوح، وتؤمن بتجاوب الناس معها، وتعتبره ميزانها وتكريمها.
شاركت في غالبية مهرجانات الثقافات العربية، لكنّها تحنّ لمهرجانات المغرب، وأجواء المغرب الرائعة، وتعشق الجنوب اللبناني وهي ابنة بيروت، تحترم تراب الجنوب وأهل الجنوب لصبرهم، وقربهم من فلسطين المحتلة. تحمل في يدها راية أن فلسطين ستعود، وأن ما يحدث اليوم في بلاد العرب سيزيح الغيمة لولادات أفضل، ومشرقة أكثر مهما زاد الخراب.
هدى في هذه الإطلالة، وبعد غياب، فرضت علينا أن الشاعر المسؤول قيمة لو غاب طويلاً، ولمجرّد إطلالة واحدة يزيل الغباشة، ويتربّع في مكانه، وبالطبع يهرب المتطفّل حينما ينطق الفاهم، وتشقّ الشمس ثقوب العتمة إلى حين تجلّي الضوء.
هدى ميقاتي وأمثالها من شعراء القضية والمحور الفاهم لأوجاعنا وعنفواننا وصبرنا وصرختنا وضحكتنا ودماء أشجارنا ونهضة ترابنا المجبول بدماء الشهداء وأقدام المقاومين، وجب ألّا نغيّبهم في إعلامنا مهما كانت عقدنا مريضة، وغيرتنا من نجاح غيرنا عارمة. المثقف المسؤول واجب علينا أن نعطيه مساحة كي يساندنا، لا أن نشارك أهل العتمة بظلامية حضورهم.
شكراً هدى ميقاتي على هذا الحضور الناضج، والمنعش لذاكرة جميلة رغم الشوك. شكراً لمستوى كلامك، ردودك، ووضوحك الذي أعادنا إلى احترام ذواتنا رغم إعصار الفوضى فينا. شكراً لأنك تؤمنين بالكلمة في زمن «داعش» وغبار الجهل، وجنوح أدعياء الأيمان، وهروب المثقفين إلى المجهول كي لا يتحملوا المسؤولية.
هدى ميقاتي الآتية إلينا من هجرة الكلام لن نسمح بغيابك أكثر، ولن نقبل بأن تسيّرنا زحمة الحياة بالابتعاد عن مجموعة مثقّفة وفنّية ذات قيمة، ولا نرسمها في صفحاتنا، أو ما تبقى لنا من سطور في صفحات تؤمن بقيمة الكلمة والمواقف.
الشاعرة هدى ميقاتي في حضورها اليوم، تنعشنا في «خوابي الكلام» وتعود واثقة، وترسم سنابلها بريشة من ذهب الذاكرة، وتلوّن حبّاتها باخضرار المواقف وعمق اصفرار الكلام، وبثلج يذاب من حرارة الأحرف الغنية بصبر التعب، وحبّ الانتظار الجميل الحالم بالأفضل.