نظرية الخلية الناقصة… والشّاي «الحقير»!

نصار إبراهيم

كنا أربعة أصدقاء الصديق حسين أبو النمل دكتوراة في الاقتصاد، والصديق عامر السمّاك طبيب عظام، وأنا ، أما صديقنا الرابع فكان إبريقاً من الشاي الثقيل أو «الحقير» كما كان يصفه الصديق دكتور الاقتصاد… ثم عمّمنا المفهوم… فغدا ذلك الشّاي ثابتاً كركيزة «ثقافية».

كنا نلتقي في بيروت – كورنيش المزرعة في بيت الصديق دكتور الاقتصاد… وحين كان يحدث ذلك فإنه يعني فرصة لحوارات ونقاشات كانت من الأجمل والأعمق… ولم يكن من النادر أن تتواصل الحوارات حتى ساعات الفجر… كنا حينها فقط نجدّد ذلك الشاي «الحقير» ونستمرّ… في تلك النقاشات لم نكن نتردّد في طرح الأسئلة مهما كانت معقدة… كما لم نتردّد في طرح القراءة النقدية في السياسة والثقافة والمجتمع… كانت الحوارات تنطلق على سجيتها فتذهب نحو مساحات لا نتوقعها… لكن وبالرغم من جدّيتها إلا أنها لم تكن تخلو من طرافة أو من سخرية بل والضحك الصادق دون أن تفقد البوصلة…

في إحدى تلك الأمسيات الجميلة توقفنا أمام السؤال التالي: لماذا لا تستطيع القوى الحية والفاعلة في المجتمع أو في التنظيم السياسي فرض رؤيتها في التغيير الإيجابي الجذري؟

بطبيعة الحال هذا السؤال بحدّ ذاته لا يحمل أية مفاجأة، فهو سؤال عادي… المفاجأة كانت في الإجابة التي قدّمها الصديق الطبيب… قال: لكي تفهموا «لماذا» سأستخدم معارفي في الطبّ لتقريب المسألة… إنّ السبب في هذه المعضلة يعود إلى ما يمكن تسميته مجازاً أو حقيقة: نظرية الخلية الناقصة… فماذا تقول تلك النظرية؟

قال الصديق الطبيب: يحدث أن يصدر الدماغ الذي يتشكّل من مليارات الخلايا أمراً لتنفيذ مهمة ما تحريك اليد أو الرجل أو النظر… أو… أو… أو أية مهمة فتنطلق جميع الخلايا المعنية بتنفيذ الأمر… ولكن يحدث أن يكون من بين تلك الملايين من الخلايا بعض الخلايا التي تعاني من نقص ما، خلل ما، لسبب ما وراثي أو لأيّ سبب كان… لهذا فإنّ كلّ خلية من تلك الخلايا «الناقصة» حين تنطلق للقيام بمهمتها المحدّدة فإنها تنطلق ولكن بسرعة وحيوية أقلّ… فيما بالطبع تنطلق الخلايا السليمة بكامل طاقتها… المشكلة هنا أنّ تلك الخلايا السليمة ومع أنها تنطلق بسرعة وحيوية كاملة إلا أنها لا تستطيع تنفيذ الأمر، إلا بعد وصول بقية المعلومات التي تحملها الخلايا الناقصة… لهذا فإنها حتى لو وصلت في وقتها المحدّد إلا أنها مجبرة على الانتظار إلى حين وصول المعلومات التي تحملها الخلايا الناقصة لكي يكتمل الأمر ويجري التنفيذ…

حسناً ماذا يحدث في المرة المقبلة… يصدر الدماغ أمراً ما… تنطلق الخلايا من جديد لتنفيذ المهمة… ولكن يلاحظ هنا أنّ الخلايا السليمة، ومن تجربتها السابقة، أصبحت تعرف أنها حتى لو وصلت باكراً فإنها لن تكون قادرة على إصدار الأمر النهائي بالتنفيذ إلا بعد أن تتكامل المعلومات، أيّ بعد أن تصل المعلومات التي تحملها الخلايا الناقصة.. لهذا فإنها لا تعود في عجلة من أمرها، فليس هناك من مبرّر للسرعة. وهكذا فإنها بعد أن تنطلق تتذكر هذه الحقيقة أو المعلومة، وبالتالي ترى أن ليس هناك ضرورة للاستعجال، لهذا تبدأ في طريقها «باللعب والعبث والغناء والتلكّؤ والسير على أقلّ من مهلها»، وذلك بانتظار وصول المعلومات التي تحملها الخلايا الناقصة.. يعني أنّ الخلايا السليمة تبدأ بالتكيّف مع معدل أداء الخلايا الناقصة… وهكذا يتراجع الأداء العام لجميع الخلايا ليصبح بمعدل أداء الخلايا الناقصة…

نظر الصديق دكتور الاقتصاد إليّ… صمتنا قليلاً.. ثم انفجرنا جميعاً ضاحكين…

قال الطبيب: نعم يحدث هذا أيضاً في المجتمع أو التنظيم السياسي حين يجري تكيّف البنى الأكثر حيوية وفاعلية ليهبط ويتناسب مع معدل أداء البنى والمؤسسات الناقصة والفاسدة والسلبية أيّ «خلايا المجتمع الناقصة» التي تحميها السلطة السياسية والنظام العام غير القادر او غير المستعدّ للتخلص من تلك الخلايا الناقصة أو على الأقلّ علاجها.

اليوم، وبعد مرور خمسة وعشرين عاماً على تلك اللقاءات… أنظر حولي، قريباً وبعيداً، أتابع أداء أفراد وجماعات، مؤسسات مدنية وسياسية، وفي مختلف المجالات… فأتذكر دائماً تلك الخلية الناقصة.

هل هذا ممكن؟ نعم ممكن… لمَ لا… و هههاااا! .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى