بين مزاجيّة الوحدة وحرّية الذات… هاندكه يُخفي مفاتيح السرّ
النمسا ـ طلال مرتضى
«المعنى في قلب الشاعر»، تلك العبارة السهلة الممتنعة في دالِّها ومدلولها، وُجدت عن قصدية مُفتعلة لجرّ السائل إلى ماهية السؤال والتفكّر، ماذا يفكر الآخر؟
قد يتساءل البعض: ماذا تعني جملة الكتابة لأجل الكتابة؟ هل أجزم بالقول إن جواب السؤال في السؤال ذاته. بعضٌ من تشتّت ينتاب الحالة دونما القبض على مُضمر متوارٍ بين مفاصل القول.
شخص واحد لم يزل ممسكاً وبعناية عارف مكّين بمفاتيح السرّ، وعلى رغم تواتر السنين، لم يُفض ما بقلبه، إنه الامتحان الأصعب حينما يتلاعب الكاتب بقارئه، ويتلذّذ بأسئلته المباحة من دون أيّ اكثراث، كمن يترك غريقاً وحيداً يجدّف في مستنقع لا فكاك منه. لعلّ البعض يهجسُ في بيت سرّه: إنه اللؤم.
النمسوي بيتر هاندكه وعبر مرويّته «المرأة العسراء» المترجمة لـ«دار الآداب» اللبنانية، يأخذنا نحو أقصيته هو، بإرادتنا، أنه الشرك المراوغ الذي نصبه، منذ العنوان العتبة الحامل للمروية «المرأة العسراء»، إذ إنّني توقفت طويلاً في كلّ مفازات الكلام علّني أجد خيطاً رفيعاً يربط بين مقولة العنوان وافتعالات المروية، حتى خلصت إلى أنه أراد من ذلك صيداً أكثر مما أراد دلالة، وقد نجح في ذلك. عندما عدت إلى مواقع التواصل لأجد أن جلّ قارئي الرواية، قرأوها، وبحسب زعم إحداهن: بصراحة قرأت العمل لأنني امرأة عسراء.
وهنا استشهد بمقولة جيرار جينيت، الذي اختصر وظيفة العنوان ضمن ثلاثة مصطلحات شاملة هي: التعيين، وتحديد المضمون، وإغراء الجمهور.
مروراً بالقصة الحامل والمبتذلة إلى أبعد الحدود، حيث يحار القارئ على أيّ خيط يتّكئ ليبني تصوّره حول المروية، التي تشي بأن امرأة تطلب من زوجها أن يتركها دونما سبب، لتعيش عزلة مع ابنها البالغ من العمر ثماني سنوات، فقط لمجرّد أنها تريد البقاء وحيدة، وهنا تحضرني مقاربة في الحكاية مع مروية خوان خوسيه مياس «هكذا كانت الوحدة» مع مفارقة الحكاية، وهي أن «ماريان» بطلة «المرأة العسراء»، امرأة بلا مشاكل تُذكر تقرّر التخلّي عن كل شيء بلا سبب، على عكس «إيلينا» في مروية خوان خوسيه، إذ إنها كانت تعاني من صراعات داخلية تحولُ دون ممارستها حياتها بشكل طبيعي.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن هاندكه أفشل محاولتها، حينما رصدتُ أن «ماريان» كانت تعيش حياة اجتماعية كاملة من خلال خروجها اليومي، وتبادل الزيارات مع «فرانسيشكا» صديقتها، كذلك إلى ضيوفها الذين لم ينقطعوا عن زيارتها. فقط هي أحجمت عن «بورنو» زوجها في حكاية استكمال العلاقة الزوجية العادية.
تعليلاً، يفضي الأمر إلى أن المجتمع المحيط، لن يتركها تمارس ما آمنت به، حينما كسر لها هذا الطوق الذي جعلها تبتسم حينما أرادت البكاء، وكذلك «فرانشيسكا» المعلّمة التي كانت تكره تلاميذها ولم تستطع الإفصاح عن ذلك خوفاً من نظرة المجتمع.
والسؤال الذي ظلّ يدهمني حتى الآن، لماذا اتخذت هذا الخيار وهي القائلة في سريرتها: لا أحمل للوحدة في نفسي إلا احتقاراً، احتقر نفسي عندما أكون وحيدة؟
هل يمكن أن نُفسّر ذلك بأن ما تمرّ به «ماريان»، ليس إلا أزمة عمرية طبيعية قد تمرّ بها نساء عدّة، أم إنه خيال الكُتّاب الجامح؟
أليس قرار «ماريان» هو فعل شجاع على رغم اعتقادي بأنه قرار أهوج وغير عقلاني؟ بمعنى القبول بمزاجية الوحدة في مقابل الحُرّية؟ لكن أيّ وحدة تحدّث عنها الكاتب وهو لم يألُ جهداً في استنطاق شخصياته ـ التي رسمها بدقة فائقة ـ حول الحالة النفسية التي يعيشها المعزول، عندما قال: الوحدة تجلب العذاب الأكثر برودة والأكثر قرفاً الذي يمكن له أن يوجد: نصبح مائعين، عندها نحتاج إلى أناس ليعلّمونا أننا في جميع الأحوال لسنا تالفين إلى هذا الحدّ.
بنائياً، وعلى رغم الترجمة السيئة جداً، والتي كانت أدّت إلى ضياع في الكثير من المفاصل بين السارد والشخصية، أي أنّ المترجم ضلّ طريقه كثيراً، لكن كثافة الجمل ودفقها بالصور نهض بالمروية، التي هي سلاح ذو حدين، أي إجهاد عين القارئ، فيما يتلقى أنه يضخّ في السطر الواحد أكثر من أربعة صور متداخلة ببعضها من دون مراعاة كسر الوقت بين النقلة والأخرى، ما شكّل في رأسي منذ الصفحات الأولى أنّ الكاتب ينوي تحميل نصّه فنياً. وهذا ما أَصبت به عندما أعدت البحث عن المروية لأجد أنّ هاندكه قد حوّلها فيلماً، وقد عمل هو شخصياً على إخراجه وإنتاجه، حيث شارك به في مهرجان «كان». إذ إنّ الفيلم واجه موجة احتجاج مفرطة في الغضب، لما اعتُبِر من جنون الفكرة، لأنهي بأن المروية لم تكن سوى فرقعة مقصودة وضعت تحت معنون دعا إلى حرّية الذات للذات، في تحفة أدبية حوّلها هاندكه إلى فنية مستترة.