الجهل والمجهول يقفان وراء نجاح عمليات الذئاب المنفردة

ميشيل حنا الحاج

حالة الجهل لدى الذئب المنفرد بحقائق كثيرة ومنها المفاهيم الحديثة في العصر الحالي، ومخاطر توجيهات وتعاليم الدولة الإسلامية التي تغذي بها عقول هؤلاء عبر نشاطها الإعلامي الكثيف، وما تعتبره إرشادياً يرسم الطريق التي يودّون من هؤلاء سلوكها باعتبارها من مقتضيات الدين الاسلامي الصحيح، مقترناً بفسحة من الإفراط في التديّن لدى الذئب المنفرد يساعد على سرعة تأثره بالأفكار الظلامية التي يبثها موقع «أعماق» وغيره من مواقع تنظيم «الدولة الاسلاميةـ داعش»… هذه كلها تساعد على تكوين القناعة الخاطئة، بأنهم، أيّ الذئاب المنفردة، بسلوكهم ذاك، انما يقدّمون هدية للدين الإسلامي، تضعهم على طريق الجنة بحورياتها وجناتها الوارفة.

ولكن عنصر تواجد أولئك الذئاب المنفردة في خانة المجهول بالنسبة لرجال الأمن ودوائر مكافحة الإرهاب، هو العنصر الأكثر خطورة وتهديداً، سواء للمجتمعات في أوروبا أو في أميركا أو في دول أخرى. اذ أنهم يسرحون ويمرحون ويتحرّكون متجوّلين بحرية تامة في صفوف المجتمعات التي يقيمون فيها. فلا رقابة عليهم ولا قدرة على توقع خطواتهم القادمة، لأنهم أصلاً غير موجودين تحت أنظار المراقبين الذين لا يستطيعون التنبّؤ أو توقع أيّ شيء عنهم، نظراً لجهل رجال الأمن أصلاً بوجودهم، بهويتهم، أو بخطواتهم القادمة التي تشكل دائماً عنصراً مفاجئاً تماماً للمجتمع، للضحايا، ولرجال الأمن أنفسهم.

فداعش كتنظيم قائم وممتدّ تواجده على مساحة جغرافية واسعة في كلّ من سورية والعراق واليمن وليبيا، بل وفي بعض المواقع الأفريقية أيضاً، هو عنصر خطر معروف ومرئي لجميع الأطراف، وتجري على قدم وساق مقاتلته بالحديد وبالنار، مع توسع دائم في كمّ النار والرصاص والإغارات التي تحاول تحجيمه واستئصاله اذا أمكن استئصالهم في وقت ما.

أما الذئاب المنفردة، فمع بقائهم في خانة المجهول، يصبح من المتعذّر، انْ لم يكن من المستحيل مقاومتهم بأية وسيلة كانت. فكيف بوسعك ان تقاتل المجهول الذي لا تعرفه، ولم تكتشف بعد حتى وجوده أو تواجده بين أفراد المجتمع الآمن المطمئن.

فمن عنصر جهالة تواجدهم، المقترن بجهلهم الذي يؤدّي بهم الى الانصياع، بل والانصهار العقلاني تأثراً بدعوات وأفكار داعش المضللة، يتجلّى أمامنا مدى الخطر الذي تمثله الذئاب المنفردة على المجتمعات الآمنة هنا وهناك، والتي تكشف الأيام تدريجياً بأنها قد باتت منتشرة في بقاع عديدة من العالم، شرقه وغربه.

فداعش يمكن مقاتلته، أما الذئاب المنفردة، فيصعب، بل يتعذر، وربما يستحيل مقاتلتهم، بسبب كونهم في خانة المجهول كما سبق وذكرت، بل وفي إطار كونهم مجرد أشباح، نعلم باحتمال وجودهم، لكن لا نعلم كيف نصل إليها أو التواصل معها. فهم أشباح خفية قادرة على الإيذاء دون أن يكون في قدرة أحد احتواءهم، مقاتلتهم، اعتقالهم، أو مجرد تجنّب مضارهم القادمة لا محالة. فهل تستطيع أجهزة الأمن أن تعتقل أشباحاً لا يُرون بالعين المجردة، أو حتى بعين سحرية؟

وبسبب هذه المخاطر المتنامية يوماً بعد آخر، والقادمة من المجهول، أخذت أصوات الشكوى ترتفع هنا وهناك وخصوصاً في الدول الأوروبية التي اعتادت مجتمعاتها على رفاهية الأمن وتفادي، بالقدر المستطاع، المخاطر التي تهدّد الانسان الآمن والمستقر.

وعزّزت تلك المخاوف سلسلة العمليات المتلاحقة التي نفذتها الذئاب المنفردة في الشهرين الماضيين، ومنها عمليتين مرعبتين في فرنسا، في كلّ من نيس ونورماندي سان تيتيان ، وأربع عمليات متلاحقة في ألمانيا، وعملية أو أكثر استخدم السيف في إحداها في بلجيكا، إضافة الى عملية حصدت قتيلة وخمسة جرحى في ساحة رئيسية من ساحات لندن، المدينة التي اعتبرت الى حين بعيدة عن العمليات الإرهابية، سواء التي تنفذها الدولة الإسلامية بشكل مباشر، أو تنفذها الذئاب المنفردة اقتداء بداعش أو تأثراً بها. ولا ننسى العملية التي نفذت أيضاً في وقت سابق لكن غير بعيد، أيّ قبل ثلاثة شهور، في أورلاندو الأميركية.

وسائل التنفيذ لدى الذئاب المنفردة

صحيح أنّ غالبية عمليات الذئاب المنفردة لا تنتج خسائر بشرية كبرى في أغلب الأحيان. فعملية القطار في ولاية بافاريا الألمانية أدّت الى جرح أربعة أشخاص فقط، وعمليتين أخريين في ألمانيا أفرزت كلّ منهما قتيلاً وبضعة جرحى. الا أنّ بعض هذه العمليات خصوصاً خلال الشهور الثلاثة الماضية، قد أنتجت أيضاً نسبة عالية من الضحايا، حيث بلغ عددهم في نيس 84 قتيلاً، وعدد ضحايا عملية أورلاندو 49 قتيلاً، وعدد ضحايا عملية المتجر في ميونيخ بلغ عشرة قتلى. وأقسى هذه العمليات من حيث بشاعة الطريقة المستخدمة في القتل، كانت تلك التي طالت كنيسة في سان تيتيان الفرنسية، وأدّت الى مقتل راهب مسنّ ذبحاً أمام عيون المتواجدين في الكنيسة لغاية الصلاة.

ونظراً لضآلة ومحدودية قدرات الذئاب المنفردة على التنفيذ، فقد بات السلاح الأبيض ومشتقاته، أو ما شابهه، من أبرز الأسلحة المستخدمة في تلك العمليات. فالفأس قد استخدم في عملية القطار في ولاية بافاريا الألمانية، والسيف قد استخدم في آخر العمليات في بلجيكا والتي جرت قبل أيام قليلة فقط في أحد شوارع مدينة الملك شارل، كما استخدم الخنجر في العملية المنفذة في لندن، في ساحة قريبة من موقع جامعة لندن حيث يتواجد العديد من الزوار والسائحين، وكذلك في أحد العمليات الأربع التي نفذت في أحد شوارع إحدى المدن الألمانية. والأغرب من ذلك أنّ سلاح الدهس بالسيارة أو بشاحنة، كان السلاح الذي استخدم أخيراً ومجدداً في نيس الفرنسية، علماً أنه قد سبق استخدامه عدة مرات في فرنسا في أواخر شهر كانون أول عام 2014، حيث نفذت عمليات دهس في ثلاث مدن في جنوب فرنسا.

ولكن محدودية الدخل والإمكانيات لدى الذئب المنفرد، لم تحل دون استخدام السلاح الناري أيضاً، كما حصل في عمليتي ميونيخ وأورلاندو المنفذتين هذا العام، مع عدم تجاهل حادثة سابقة مشابهة وقعت عام 2015 في برناردينو الأميركية وسبقت الإشارة اليها، حيث أدّى إطلاق النار فيها من شخصين معاً هما زوج وزوجته، الى مقتل 14 شخصاً. وكان التطوّر الأهمّ هو استخدام وسيلة تفجير قنبلة في عملية واحدة حديثة نفذت في 26 تموز في مدخل أحد المسارح الألمانية في مدينة آنسباخ، مع وجود سابقة لاستخدامها في شهر نيسان 2013، وذلك في حادثة التفجير الشهيرة في بوسطن الأميركية خلال سباق للركض في بعض شوارع تلك المدينة، وهي العملية التي شكلت السابقة الأولى لظهور الذئاب المنفردة والمخاوف منها.

ومع أنّ الذئاب المنفردة غالباً ما تعمل وحدها، أيّ منفردة، فقد لوحظ مشاركة آخر مع الذئب المنفرد في بعض تلك العمليات، كما حدث في واقعة التفجير في بوسطن عام 2013، حيث نفذها شقيقان معاً، قتل أحدهما لاحقاً اثناء مطاردتهما، واعتقل الآخر وواجه محاكمة أصدرت عليه في عام 2016 حكماً بالاعدام. كما تكرّر الأمر في عام 2015 لدى تنفيذ عملية مهاجمة مصحّ طبي في بيرناردينو، اذ شارك في الهجوم زوج وزوجته معاً كما سبق وذكرت. وتكرّر الأمر أخيراً في حادثة مهاجمة الكنيسة في شهر تموز 2016، إذ قاد الهجوم عادل كرميش المراقَب أمنياً، ورافقه في تنفيذ عملية مهاجمة الكنيسة في سان تتيان، شاب من أقرانه ذكرت الأنباء مشاركته دون أن تحدّد مصيره نتيجة مشاركته في ذاك الهجوم.

وإزاء هذا الخطر المتفاقم يوماً بعد آخر، يجدر بالمراقب التساؤل عما يمكن أن تفعله الحكومات وأجهزة أمنها للحدّ من تلك العمليات، مع تعذّر الحيلولة دونها بشكل نهائي اذا بقي منفذوها في خانة الأشباح والمجهولين.

كيفية المعالجة ومحدودية اطارها

هناك أمران لا بدّ منهما:

1 اغلاق سبل البث الألكتروني في وجه داعش. فلا بدّ أن تعمل الدول وحكوماتها على إغلاق سبل استخدام شبكة النت العنكبوتية في وجه داعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية مهما كان شكلها أو وسائل بطشها، مع بقاء للأسف إمكانية استخدام وسائل البث الإذاعي الذي ربما يكون وصوله الى المستمعين والمتابعين أكثر صعوبة، وخصوصاً اذا استخدمت وسائل التشويش عليه، ولكنه بكلّ تأكيد، لن يكون باليسر والسهولة التي تحققها وسائل التواصل الاجتماعي أو الألكتروني عبر الشبكة العنكبوتية.

2 تضييق المراقبة ضمن حدود القانون والمفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، على الجاليات الإسلامية والشرق أوسطية والتي أكدت سلسلة العمليات المنفذة قديماً وحديثاً، أنها قد نفذت جميعها من منتمين للطائفة الإسلامية، لكن من المؤمنين منهم بالمفاهيم المتشدّدة التي يأباها الدين الإسلامي الحنيف المعروف بالاعتدال والوسطية. اذ كان من بين المنفذين أفغان وايرانيون وسوريون، بل وأخيراً كان منهم فنلندياً من أصل صومالي، وهو منفذ عملية الطعن في لندن.

لكن كيف يمكن إحكام الطوق وتشديد المراقبة على هؤلاء مع الحفاظ على الحدود الدنيا من مفاهيم الدمقراطية والمثل العليا وحقوق الإنسان؟

بدأت فرنسا حديثاً تتجه لإغلاق بعض الجوامع التي تحضّ في خطاباتها على الكراهية للآخر غير المسلم ، كما أخذت تفرض على المتاجر التي تبيع لحوم ذبح حلال، ببيع مواد أخرى كالخمرة مثلاً، نفياً لصفة التشدّد الإسلامي فيها. ولكن هذه وتلك من الإجراءات التي قد تتبع لاحقاً، فيها بعض النيل من حقوق الإنسان وحريته. وهذه قد تساعد على تحجيم عدد المتوجهين للانتماء رسمياً وفعلياً لداعش، لكنها لن تحول دون ظهور الذئاب المنفردة وتفاعلهم مع توجهات داعش.

والواقع أنّ الحيلولة دون ظهور هؤلاء وتفاعلهم مع توجهات داعش، يظلّ أمراً مستعصياً خصوصاً مع بقاء وسائل الدعاية التي تمارسها تلك الدولة عبر الإذاعات الصوتية أو الشبكة العنكبوتية. فما يهمّ في هذه الحالة، هو إلقاء الضوء ولو اليسير منه عليهم، لإخراجهم من إطار المجهول الذي يحتمون به ويختفون وراء ستاره. وهذا لا يفضي إليه إلا مزيد من التحقيات مع كلّ من يشتبه بوجود توجه إسلامي متشدّد لديه. ومع ذلك، فإنّ التحقيق مع هؤلاء المشتبه بهم، قد لا يكون ممكناً بدون مبرّر، لتنافيه مع مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. كلّ ما في الأمر، انه بوسع الدولة ان تعدّل قوانينها لتختلق مناسبات أكثر تضطر أولئك لمراجعة الدوائر الأمنية مرات أكثر، بمناسبات أكثر، ضمن حدود ومتطلبات القوانين المعدلة.

فالمقيم في دولة أوروبية مثلاً، سواء كان يتمتع بجنسيتها، أو يتواجد على أراضيها ضمن قوانين الإقامة المؤقتة او الدائمة أو لغايات العمل، يمكن تفعيل قوانين توجب عليه مراجعة الأجهزة الأمنية لمرات أكثر مما اعتاد أن يفعله في الظروف الحالية. فإصدار إذن عمل أو تجديد إقامة، يفترض معه بموجب التعديلات المقترحة، أن يراجع الدوائر الأمنية، على أن يواكب مراجعته تلك، جلسة تحقيق مكثفة يشارك فيها خبراء في علم الجريمة وعلم النفس لاستقصاء طبيعة شخصيته ونوعية توجهاته، وذلك من خلال السؤال والجواب، مع توجيه أسئلة استفزازية متعمّدة لدراسة ردود فعله النفسية، ومدى تشدّده الديني، وتوجهه نحو ظلامية الطرح الداعشي الخطير. ففي حالة كهذه، قد ينكشف الخفاء عن البعض، وتثور الشكوك والتساؤلات التي قد تستدعي المراقبة المكثفة لهذا أو ذاك، بغية الحدّ وتخفيض عدد من يقف في عالم المجهول، أو في خلية الأشباح غير المرئية للعيان.

وقد يمكن توسيع مطالبات مراجعة الأجهزة الأمنية لتشمل من يطلب عقد زواج، أو استصدار رخصة سواقة، أو رخصة لفتح متجر ما، او إذناً لاستبدال موقع الإقامة، وغير ذلك من الأسباب التي يستطيع القانون إيجادها، ابتكارها، والتوسع بها، ممارساً حقوقه السيادية على أراضيه، ودون أن تكون تلك الإجراءات قد حدّت كثيراً من المفاهيم الديمقراطية، أو من مراعاة حقوق الإنسان ومقتضيات الحضارة الحديثة.

فالجهل هو أحد الأخطار التي تقود البعض للتحوّل الى ذئب منفرد، والمجهول هو الذي يبقيه في طيات الغياب والنسيان بعيداً عن الأنظار، وقابعاً في عالم الأشباح الخفي، في عالم متطوّر يرفض فكرة تواجد الأشباح وخصوصاً الشريرة منها التي كانت ترد في روايات الأولين، وهو يرفض الآن تواجد أشباح بشرية بين صفوفه، سرعان ما تفاجئه بتحوّلها من شبح صامت خفي، الى ذئب منفرد يقتل ويؤذي الأبرياء من الناس.

مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب – برلين.

عضو في مركز الحوار العربي الأميركي – واشنطن.

عضو في رابطة الكتاب الأردنيين – الصفحة الرسمية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى