ليشته قارئاً باشلار… النظريّة هي التجربة التي تتعلّم من نفسها
في كتابه «خمسون مفكراً أساسياً معاصراً: من البنيوية إلى ما بعد الحداثة» يرى جون ليشته في دراسته حول مجموعة من كبار المفكرين الغربيين أنهم من أبرز منتجي وصانعي التيار البنيوي والتيار ما بعد الحداثي في مشهد الفكر الإنساني المعاصر. ومن هؤلاء تجربة المفكر الفرنسي غاستون باشلار مؤلف «شعرية المكان» و»شعرية أحلام اليقظة» و»الفكر العلمي الجديد» والمعروف بنظرية القطيعة الإبستيمولوجية.
باشلار، بحسب ما ينقل عنه الباحث الجزائري جيلالي اليابس في تقديمه كتاب «الفكر العلمي الجديد» الذي ترجمه إلى العربية عادل العوا، يرى أن التجربة العلمية ما هي إلا تطبيق للعقل، ولذلك فإنه يعتقد «خلافا لما درج عليه ديكارت أن الأهم هو العقل» إذ «يذهب باشلار إلى إبراز ما للتجربة من أهمية قصوى».
في هذا السياق ينطلق جون ليشته قائلاً: «وهكذا لم يعد تاريخ العلم تعبيراً عن العقل، بل أصبح هو الذي يبني الإطار الفكري لفهمه من خلال تكوينات معرفية»، ومن ثمة فإن التغييرات في التجربة أو الخبرة الحاضرة للمجتمع أو الفرد تغيَر معنى الماضي. لم يبقَ في إمكاننا أن نفهم الماضي كما هو في حدّ ذاته. إذ أصبح الآن يفهم من خلال اهتمامات الحاضر وهمومه».
يوضح جون ليشته أنَ غاستون باشلار الفرنسي المولود عام 1884 والمتوفى عام 1962 ذو تأثير عميق في الأجيال المفكرة الفرنسية ضمن حقول المعرفة وفلسفة العلم ونظرية الخيال، ويحدّد ثلاثة عناصر أساسية في منظومته الفكرية وهي ثلاثة: تأكيد نظرية المعرفة في العلم والتنظير لتاريخ العلم وتحليل أشكال الخيال.
حول العنصر الأول يرى باشلار أن نظرية المعرفة هي التي «تتيح لنا فهم مغزى المحاولات العلمية وأهميتها»، وهكذا نجده يميز بين مكانين أولهما «ننظر ونبحث ونتفحص فيه»، وثانيهما «نرى فيه». فما هو إذن الاختلاف بينهما؟ يرى باشلار وفقاً لشروح جون ليشته أن الاختلاف بين هذين المكانين يتمثل في أن «المكان الذي نرى فيه هو دائماً مكان تمثيلي وليس مكاناً حقيقياً، ولا يمكن أن ندرك ذلك إلا بالرجوع إلى الفلسفة»، ولذلك يقترح باشلار اعتبار التمثيل بمثابة «الوسيط الطبيعي لتحديد العلاقات الخاصة بالشيء في حدّ ذاته وبالظاهرة».
ثمة تمييز آخر يريد باشلار توضيحه في ما يتعلق في الفرق بين العقلانية والواقعية. وفي هذا الصدد يبرز باشلار بحسب تأويل الدارس ليشته أن العقلانية – التي تشمل الفلسفة والنظرية- هي ميدان التأويل والعقل، في حين أن الواقعية هي التي تزود العقلانية المادة المطلوبة لإعطاء تأويلاتها»، ما يعني في التحليل الأخير أن العلم ليس انعكاساً آليا للنظام الفلسفي، كما أن الواجب على العالم ألاّ يعطي الامتياز للفكر أو للواقع، بل من الضروري «الإقرار بالصلة الوثيقة بن الاثنين» أي أنه «لا بدّ للتجريب من أن يذعن للبرهان والحجة، كما أنه لا بدّ للبرهان أو الحجة من أن يرجع إلى التجريب».
بعد توضيح العنصر الأول المكون لبنية فكر باشلار، ننتقل الآن إلى العنصر الثاني من هذه البنية باعتباره العنصر المؤثر في تشكيل جزء من المعمار النظري والمفهومي لكل من البنيوية والبنيويين في الإنتاج الفكري لكثير من المفكرين الغربيين المعاصرين ومن سار معهم فكرياً في هذا الخط. يتمثل هذا العنصر الثاني في نظرية تاريخ العلم. فالنظرية العلمية التقليدية يؤرخ لها على أن العلم هو نتاج الحركة الانتقائية، لكن باشلار لا يرى كذلك، وفي هذا الصدد يحاجج بأن «العقائد أو النظريات الجديدة لم تتطور من القديمة إلى الجديدة ، بل إن الجديد احتوى على القديم» و يوضح هذه الفكرة بدقة أكثر مبرزاً: «فالأجيال الفكرية يعشش أحدها ضمن الآخر» وفي هذا الصدد يقدم باشلار هذا المثل: «حين ننتقل من فيزياء غير نيوتنية إلى فيزياء نيوتنية – نسبة إلى نيوتن-، لا نواجه التناقض إنما نمر في تجربة التناقض». هنا تبرز فكرة عدم الاتصال، أو القطيعة في التأريخ للعلم بوضوح كامل إذ نلاحظ وجود فرق كبير بين مواجهة التناقض والمرور في تجربة التناقض. فالسائد في الثقافة العربية هو أن التغير يلحق بالأشياء في الطبيعة، وكذلك الإنسان، وهنا ندرك أن مثل هذا الفهم للتغير جزئي وانتقائي وخاطئ جزئياً أيضاً. يوضح لنا باشلار بجلاء الفكر الحصيف: إن التغيير لا يلحق محتوى الظاهرة العلمية وحدها، بل يلحق معنى المفهوم الذي تستند إليه تلك الظاهرة.
أما العنصر الثالث المكون للفكر النظري والأدبي لدى باشلار والذي يتمثل حصريا في نظرياته الخاصة بمجال «أشكال الخيال»، فإنه يؤكد «على الطابع النفسي الأساسي للخيال المبدع». ويرى جون ليشته أن كتابات هذا المفكر تشير إلى حقيقة أن «كلاَ من المفهوم والصورة لا يتمتعان بالشفافية، وأن العتمة والغموض ينذران بأن عنصراً من الذاتية يؤدي دوراً على الدوام في الشؤون البشرية. هذا يعني أن البشر يجري التكلم بهم بقدر ما هم يتكلمون ضمن أطر العلم و»الرمزي» التي تكوَن حياتهم».
فما هو الخيال إذن لدى غاستون باشلار؟ إنه يعرّفه باختصار شديد على هذا النحو: «هو الميدان الذي ترتع فيه الصورة بمعنى المتصور ، لذا يجب تميزه عن ترجمة العالم الخارجي إلى مفاهيم. إن الخيال ينتج صوراً وهو في حدّ ذاته تلك الصور، في حين أن الفكر ينتج المفاهيم»، وهنا يرى باشلار تضافر العقلانية وما فوق العقلانية. فالخيال باعتباره ظاهرة فوق عقلانية «يبعث الحياة في الصورة» على حدَ تعبيره ومن دون ذلك فإن «عالم الصور سيذبل ويموت» أيضا وبعبارة أخرى فإنه لو لم يكن هنالك شيء من «ما فوق العقلانية، لذبل الفكر ومفاهيمه أيضا بعدما أعياهما مرض الاكتمال والبساطة».
في أي حال، تؤكد تحليلات جون ليشته لفكر باشلار أن هذا الأخير لعب دوراً محورياً في تعبيد الطريق معرفياً لبعض الأفكار الأساسية التي أصبحت في ما بعد متداولة في قاموس البنيوية وما بعد البنيوية، أما العوامل التاريخية والاجتماعية فإنها ساهمت على نحو فاعل في تكوين هذين التيارين الفكريين، فلا يذكرها الدارس جون ليشته ولو بعجالة ولعل السبب الفصل التعسفي الذي يقيمه بين المكونات التاريخية بما فيها تأثيرات الآخر غير الغربي، والمكونات الإبستيمولوجية للتيارين البنيوي وما بعد البنيوي.