علي قانصو… هكذا عرفته ولهذا احترمته

جهاد أيوب

كنت صغيراً حالماً أبحث عن شجرة ارتوي من فيئها. رفاقي يستعدّون للانضمام إلى أشبال الحزب القومي… «تنظيم الأشبال فقط للأولاد المهذّبين، الذين يسمعون كلام أهلهم…»، هكذا أخبروني، ولهذا قرّرت أن أخبر والدتي برغبتي في الانضمام إليهم، خصوصاً أنّ أحد شباب البلدة التي كانت «ضيعة» تشرب من تعب فلاحيها، يدعى علي قانصو، من الناشطين في الحزب، وبالتأكيد ستقبل الوالدة التحاقي بالأشبال. أذكر أنني سمعتها تقول ذات جلسة عائلية: «القومي علي قانصو، والشيوعي أحمد قبيسي، والمنظّم الشيوعي خليل سلامة من خيرة الشباب الواعين، هؤلاء شباب مثقّفون، ولديهم استيعاب للحرّية والحقّ والوعي، تعلّموا منهم ولا تدخلوا أحزابهم، فأنا لا أحبّ الأحزاب».

حُرمت من الأشبال، واستَمْرَرت في مراقبة ابن الدوير علي قانصو يتنقّل من موقع إلى آخر وبنجاح، يخطب في المناسبات، يحاضر في أدقّ ظروفنا، يعطي رأياً سياسياً أو اجتماعياً بتهذيب ومسؤولية. يبتسم، لا يعرف عتمة الوجه، غابة من الترحيب، وواحة من المشاركات، وسريع السؤال. ها هو يمدّ يده لمصافحتي وأنا الصغير المتطفّل لمشاهدة إنعام رعد ـ رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي آنذاك ـ خطيباً وشارحاً أبعاد الحرب الأهلية اللبنانية في حسينية الدوير.

سألني علي قانصو عن الوالدة المناضلة والصابرة، وسارع ليطمئنّ على وضعي الدراسيّ كأنه من أسرتي. يشغل فكره بطفل يلعب مع زمن العمر ويسعى إلى مجهول لا يعرف نافذته.

شغلني هذا الشاب الأنيق بمحبّته لي ولأسرتي. ومرّ الزمن، وغبنا عن لحظات تجمعنا. أخذنا الحلم إلى سفر وعلم وغربة وتعب، وما زالت أخباره تصلني، لا بل سؤاله عنّا لا ينقطع ونحن لسنا بأقرباء، بل نحن من أبناء القرية فقط.

الأمين علي قانصو يطيب الحوار معه، ينتعش السؤال منه وإليه، وتسعد الجلسات في حضوره. الأجمل أنه يستمع إليك بشغف، يشاطرك القلق، ويعاود ترتيب الأفكار إذا كانت عشوائية من محبّ أو مجرّد زائر. يحترم هذا المقبل إلى دارته، ويصغي باهتمام بعيداً عن الشوفانية وأنانية التكبّر.

قلّما شاهدته غاضباً، لكنني أعرفه حاسماً، ولم أسمع منه سخرية من رأي لم يعجبه أو موقف لا يسعده أو حديث فيه سذاجة. سمعته يشيد بمن يستحقّ، ويوضح ما وجب إيضاحه، ويشارك من احتاج إلى النصيحة والمشاركة.

هو مثلنا من الدوير التي حاكت سجّادتها من زراعة الأرض بالقمح والتبغ والتين والزيتون والصبّار. عانق ترابها، وأكل من زعترها، وخاطب القمر في ليل لا كهرباء فيه. وخاف من الرعد والبرق حتى عرف أسرارهما فصادقهما. وتعلّم كيف يردّ الضربات من شوك الأرض، وكيف يبلسم الجراح من فجر العمل، وكيف يكون الصديق من سفر السنونو، وكيف يجابه الليل من وحدة حلمه وشقاوة صباه.

الدوير التي حمل أهاليها المعول بيدٍ والحرف باليد الثانية، حاصرها الإقطاع فانتصرت عليه بزنود سمراء من نور الشمس. وعانت من قلّة العلم والمعرفة لأنّ الدولة أهملتها، فخرج منها أهل علم ومعرفة بتفوّق حتى غدت منارة في الشعر والأدب والتربية وسلك الدولة. الدوير التي عاشت الحرمان الإداري اعتمدت على طموح أهاليها، فكانت الكتاب والحبر والمقاومة. هي تفتخر بشبابها، وشبابها كبروا وزرعوا ليحصد الجيل الجديد.

علي قانصو سار بثقة مع رعاة بلدته وفلاحيها ونواطيرها وفي يده الكتاب. لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب، بل هو بتعبه وصبره وحُسن الانتماء صنع ذهب المواقف، وهذه سمات الفلاح في الدوير والجنوب. هو لم يخن المبدأ الذي عانقه واعتنقه، ولم يخن طريق التعب، والمشاوير الوعرة، وبركة الساحة ومواسم القطاف. استمرّ مقلّداً والده في زرع ينتظر ثماره، زرع، وحصد، وأهدى، وشكر.

علي قانصو، وزيراً كان أو رئيساً لحزب ناضل منذ برهة انطلاقته ولا يزال، يشاركنا أفراحنا وأحزاننا، يخاطبنا بعزّة وهو لا يعرف عنّا غير الانتماء إلى بلدته. يوقفنا مرحّباً نخجل من محيّاه، ويحادثنا بطيب أصله وشباب لا يشيخ.

عاش ضمن أجواء عائلية عانت منها البلدة، لكنه لم ينتمِ إلى الفكر العائليّ بقدر ما انتمى إلى الحقيقة والمصالح العامة، ومصلحة البلدة بمصالحة الجميع. تخطّى الصغائر، وَفَّق ووُفِّق، تواضع حتى احتضنته الأرض بشموخ الحكمة، حمته الأشجار متذكّرة الطفل الذي لعب بين أغصانها ولم يتجاهلها كبيراً.

أنا لست من مناصري حزبه على رغم احترامي له ولتاريخه، ولست من المستفيدين من حركته، ولم أخاطبه يوماً لمصلحة آنيّة. وأنا لست متطفلاً ومجاملاً ومتلوّناً وهو لا يحبّ هذا وذاك. وأنا لم أكتب هذه التحيّة لكونه كان شريكاً في الدوير وأصبح لكل الوطن. بل أردت البوح لأنير عاطفة وجبت إنارتها، ولفتح نافذة على الشاب الحزبيّ الطموح، الذي أضحى في ما بعد وزيراً ولم تتلوّث سمعته بالفساد وبزعبرات السياسة. أردت أن أكتب هذا السطر عن شخصية التزمت خطّاً ولم تفبرك الخطّ. حلم فكان سيّد مكانه ليتربّع على كرسيّ الاحترام.

قد لا تحبّه سياسياً وحزبياً، ولا تؤمن بمواقفه، وهذا حقّ واختيار وحرّية، ولكن من الظلم أن تدخل جملته، وتتعرّف إلى جهوده في تعب لا تشوبه شائبة، في بذرة صافية تدرك مواقفها ولا باعت ساعة رخص المبيع، حتى غدت نخلة شامخة تحرسها زوبعة ترسم صورةً لشاب مناضل ستحترمه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى