كيف هَزَمَ حزبُ الله «إسرائيل»؟ ٣/٢
ترجمة وإعداد: ليلى زيدان عبد الخالق
لا شكّ في أنّ الانتصار الكبير الذي حقّقته المقاومة على الجيش الصهيوني في تمّوز 2006، ملأ الدنيا وشغل الناس، وحير الدول العظمى، وأصاب بعضها بإحباطٍ ما بعده أحباط، وجعل بعض الدول العربية المتعاونة حتى النخاع مع الكيان الصهيوني تشعر بذلّ ما بعده ذلّ، خصوصاً بعدما وصفت قتال حزب الله ضدّ الصهاينة بـ«المغامرة». وفي المقابل، شعر امتلأت قلوب جمهور المقاومة والشعوب العربية المتحرّرة من قيد الاستزلام للصهيانة، بمشاعر العزّ والإباء والبطولة.
ولا شكّ في أنّ هذا الانتصار الكبير، شغل المحلّلين العسكريين، محليين وعالميين، فكيف لمقاومة أن تكسر شوكة «الجيش الذي لا يُقهَر»، لتتحوّل الضمّة على الياء في «يقهر» إلى فتحة، فيصبح هذا الجيش ـ الجيش الصهيوني ـ جيشاً لا يَقهر، ولا قوّة لديه لأن يَقهر، إذ إنّ الذلّ سيلحق به حتى اضمحلاله.
كثرت التحليلات العسكرية، وكثرت المقالات الصحافية، والمقابلات التلفزيونية التي حاولت تفنيد هذا الانتصار وتحليله وفكّ عقده. وفي ما يلي، قراءة من ثلاث حلقات، ننشرها تباعاً، قدّمها كل من آلاستير كروك ومارك بيري لصحيفة «آسيا تايمز».
وتجدر الإشارة إلى أنّ الكاتبين آلاستير كروك ومارك بيري، شاركا في إدارة منتدى النزاعات، وهي مجموعة مقرّها لندن تكرّس عملها للانفتاح على الإسلام السياسي. وكروك هو المستشار السابق للممثل السامي للأمم المتحدة في الشرق الأوسط خافيير سولانا، كما شغل منصب موظف في لجنة «ميتشيل» للتحقيق في الأسباب التي أدّت إلى الانتفاضة الفلسطينية الثانية. أما بيري فهو سياسي ومستشار في واشنطن وألّف ستة كتب عن تاريخ الولايات المتحدة، فضلاً عن أنه عمل سابقاً كمستشار شخصي للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
الحلقة الثانية من هذا التقرير، تتناول تفوّق حزب الله برّياً على جيش الكيان الصهيوني.
كسب المعركة البرّية
جاء قرار «إسرائيل» شنّ حربٍ برّية لإتمام ما فشلت قوّاتها الجوّية القيام به متردّداً وعشوائياً. وبينما كانت وحدات قوات الجيش «الإسرائيلي» تقوم بغزواتها في الجنوب اللبناني في الأسبوع الثاني من الحرب، لم تتمكّن القيادة العسكرية «الإسرائيلية» من اتخاذ قرار في شأن متى وأين تنشر وحداتها ميدانياً.
تردّد الجيش إلى حدّ كبير حول متى وأين وعمّا إذا كان نشر وحداته البرّية الرئيسة سيحقّق الوظيفة المفترضة لسلاح الجوّ لتحقيق النصر. فقد ادّعت وحدات دفاع الجوّ «الإسرائيلي» ـ يومياً ـ قدرتها على تحقيق النجاح. وقد رصدت وسائل الإعلام الغربية عدم الثبات هذا في القرار «الإسرائيلي» حول توقيت الحملة البرّية، أو في ما إذا كانت ستحدث بالفعل.
واصل الضباط «الإسرائيليون» الكبار التصريح أمام وسائل إعلامهم حول توقيت الهجوم البرّي الذي أصرّوا على إبقائه سرّاً في الوقت الذي كانوا هم أنفسهم لا يعرفونه. وجاء هذا التردّد أيضاً نتيجة لتجربة وحدات الجش «الإسرائيلي» الصغيرة التي نجحت في اختراق الحدود. فقد عملت وحدات الدفاع الخاصة هذه في الجنوب اللبناني على رفع تقارير لرؤسائها منذ 18 تموز حول خوض وحدات حزب الله قتالاً شرساً بهدف الاحتفاظ بمواقعها على خطّ الحافة الأول المطلّ على «إسرائيل».
وعند هذا الحدّ، اتخذ رئيس الوزراء «الإسرائيلي» إيهود أولمرت قراراً سياسياً: نشر قوة كاملة من الجيش «الإسرائيلي» لهزيمة حزب الله في الوقت نفسه الذي أبدى فيه كبار مساعديه استعداد «إسرائيل» لقبول وقف إطلاق النار ونشر القوات الدولية على الحدود. صمّم أولمرت على تنفيذ هذا القرار، باعتباره الملاذ الأخير لحفظ ماء الوجه مع قبوله فكرة نشر قوات دولية.
قرّر ـ للمرّة الأولى ـ أن «إسرائيل» سوف تقبل بقوة منظمة من حلف شمال الأطلسي الناتو . وتماشياً مع هذه الاستراتيجية، تمّ استدعاء قوات الاحتياط «الإسرائيلية» إلى الجبهة في 21 تموز. وجاء هذا الاستدعاء المفاجئ بعد نية الجيش «الإسرائيلي» هزيمة حزب الله من الجوّ، ثمّ ـ في حال الفشل ـ يستخدم قواته النظامية، بعيداً من إمكانية استدعاء قوات احتياطية بمثابة قرار نشر أولي سريع وغير منسّق.
قدّم استدعاء 21 تموز إشارة واضحة للاستراتيجيات العسكرية في البنتاغون من أن الحرب «الإسرائيلية» لا تسير على ما يُرام. وقد ساعد في بلوغ هذا الاستنتاج أيضاً وصول قوات الاحتياط «الإسرائيلية» إلى الجبهة من دون المعدّات الضرورية ومن دون خطة حربية متماسكة أو حتى ذخائر لازمة لمواصلة القتال.
أما تأثير ذلك، فكان يُنظر اليه على الفور من قبل الخبراء العسكريين. «بدت القوات الإسرائيلية غير مستعدّة البتة، قذرة، ومعنوياتها متدنّية»، كما ألمح إليه أحد القادة الأميركيين السابقين. «لم يكن هذا الجيش الإسرائيلي هو نفسه ذلك الجيش المتبجّح الذي شهدنا أداءه في الحروب السابقة».
وتماشياً مع خطة أولمرت السياسية، فإن هدف الجيش «الإسرائيلي» بالقضاء على كامل قوة حزب الله، تراجع بصورة ملحوظة. «هناك خط واحد يفصل بين أهدافنا العسكرية وتلك السياسية»، وكما صرّح عضو قيادة الأركان «الإسرائيلية»: إن الهدف هو الإطاحة بالمنطق العسكري لحزب الله، وليس بالضرورة بكلّ صاروخ يمتلكه حزب الله. ولا يفصلنا عن تحقيق هذا الهدف سوى بضعة أيام.
وكانت هذه فعلاً طريقة عجيبة لعرض الاستراتيجية العسكرية: شنّ حربٍ بهدف «الإطاحة بالمنطق العسكري للعدوّ». تفاءل بعض القادة الميدانيين في الجيش «الإسرائيلي»، في وقت فشل سلاح الجوّ «الإسرائيلي» في إيقاف هجمات حزب الله الصاروخية على المدن «الإسرائيلية»، التي تلقّت وابلاً من الصواريخ بين 19 و21 تموز أكثر من أيّ وقتٍ مضى.
أما في 22 تموز، فقد كانت المرة الأولى التي تجاوبت فيها الولايات المتحدة عسكرياً في الصراع. حيث أعلن البيت الأبيض في وقت متأخر من ذلك النهار أنه تلقى طلباً من أولمرت ومن الجيش «الإسرائيلي»، توفير كميات كبيرة من الذخائر الموجهة بدقة ـ وهذا يدلّل مرة أخرى على مدى فشل سلاح الجوّ «الإسرائيلي» في النيل من قدرات حزب الله العسكرية وتحديداً في الجولات المفتوحة من الحروب.
تمّت الموافقة على هذا الطلب فوراً، وشُحنت الذخائر إلى «إسرائيل» صباح اليوم التالي. واعتبر مسؤولون كبار في البنتاغون أن شحن الذخائر لا يعني بالضرورة أن «إسرائيل» قد استهلكت كلّ مخزونها في الأيام العشرة الأولى للحرب ـ بعد الاستهداف الهائل لمواقع حزب الله، واقتراح «إسرائيل» خيار التخلّي عن القصف الاستراتيجي لهذه المواقع، حيث كان متوقعاً الانقضاض على ما تبقى من البنية التحتية في لبنان، استراتيجية لم تنجح خلال الحرب العالمية الثانية، عندما دمّرت كلّ من الولايات المتحدة وبريطانيا 66 في المئة من المراكز السكنية الرئيسة في ألمانيا من دون أن يؤثر ذلك على الروح المعنوية للألمان أو حتى على قدراتها العسكرية.
لكن هناك قليل من التذمر في وزارة الدفاع الأميركية، وكان أحد الضباط المسؤولين قد ألمح إلى أن نشر الذخيرة الأميركية، يذكرنا بطلب مماثل كانت قد تقدّمت به «إسرائيل» عام 1973 ـ إبان ذروة «حرب الغفران»، وهذا يعني شيئاً واحداً فقط: أنهم يتأرجحون على الحبال.
التزم رئيس هيئة الأركان المشتركة الحالي، بيتر بايس، الصمت خلال الحرب بين «إسرائيل» وحزب الله، وهو شخصية تفهم التاريخ جيداً. لكن كبار القادة العسكريين في هيئة الأركان المشتركة لم يكونوا هم المسؤولين الوحيدين الذين شعروا بالقلق حيال أداء «إسرائيل». وبينما كانت الذخائر الأميركية تحلّق فوق اسكتلندا في طريقها إلى «إسرائيل»، كان مسؤولو الاستخبارات «الإسرائيليون» يقومون بإجراء تقييمات أولية للأيام الأولى من الحرب، بما في ذلك تقييم الهجمات الجوية العنيفة المتواصلة. كانت قناة «المنار» لا تزال تبثّ من بيروت، على رغم تدمير سلاح الجوّ «الإسرائيلي» شبكاتها الرئيسة الأخرى في لبنان. إذاً، ما مدى فعالية الحرب الجوية «الإسرائيلية» ما دامت لم تنجح في إيقاف بثّ محطة تلفزيونية؟
أما الغرض من استدعاء احتياطي «إسرائيل» لدعم القوات المقاتلة في جنوب لبنان، فكان إضافة وزنٍ إلى الهجوم البرّي. وفي 22 تموز، خاضت وحدة من وحدات القتال في حزب الله تدعى «لواء النصر» حرب شوارع مع «الإسرائيليين» في بلدة مارون الراس. وبينما ادّعت قوات الجيش «الإسرائيلية» نهاية ذلك اليوم أنها تمكنت من السيطرة على البلدة، غير أنها فعلياً لم تنجح في ذلك. القتال كان دامياً، لكن مقاتلي حزب الله لم يستسلموا ولم يتخاذلوا. وكان جنود «لواء النصر» قد قضوا أياماً عدّة ينتظرون بدء القتال مع الجيش «الإسرائيلي»، وبسبب قدرة حزب الله على اعتراض الاتصالات العسكرية للجيش «الإسرائيلي»، فقد صُعق الجنود «الإسرائيليون» بمدى فعالية تحصين هؤلاء.
وفي حين واصل الجيش «الإسرائيلي» تأكيده على أن توغلاته التي ستبقى محدودة المدى، على رغم استدعاء الآلاف من قوات الاحتياط، بدأت كتائب من الجيش «الإسرائيلي» في التشكّل جنوب الحدود. «نحن لا نستعدّ لغزو لبنان»، قال آفي بازنر، وهو المتحدّث بِاسم الحكومة «الإسرائيلية» العليا. وما لبث أن دعا الجيش «الإسرائيلي» إلى أن يكون له أول موطأ قدم في الجنوب اللبناني، حيث أن دفع المزيد من قوات الدفاع الجوّية والبرّية سوف يجبر حزب الله على التراجع، من دون الدخول في معمعة الغزو والاحتلال.
وفي المقابل، لم يحتج حزب الله إلى استدعاء احتياطه من المقاتلين على غرار «إسرائيل». فقد خاض كامل هذه المعركة بـ«لواء النصر» فقط، المكوّن من 3000 مقاتل لا أكثر. وقد أكدت التقارير الواردة من البنان هذا الواقع. وما يثير الدهشة، أن مسؤولي حزب الله قد وجدوا أن القوات «الإسرائيلية» غير منظمة وغير منضبطة، وأن تشكيلة الجيش «الإسرائيلي» متنافرة. في حين أشار مسؤول مطّلع في الولايات المتحدة، أنّ هذا ما سيكون الوضع عليه بعد مضيّ أربعة عقود من إطلاق الرصاص المطاطي على النساء والإطفال في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وفي 25 تموز، تراجع أولمرت عن استراتيجيته القاضية بتدمير كامل لقوات حزب الله. وكان وزير الدفاع «الإسرائيلي» عمير بيريز قد حمل هذا الأنباء، معلناً أن هدف «إسرائيل» الحالي إنشاء «منطقة أمنية» في الجنوب اللبناني. وقد ترافق إعلانه هذا مع إرسال تهديد مفاده: «إذا لم تكن هناك قوة متعدّدة الجنسيات تستطيع السيطرة على الحدود، فإننا سنستمرّ في إطلاق النار نحو أيّ شخص قد يقترب من المنطقة الأمنية الحدودية، وهم يدركون جيداً أنهم سوف يتضرّرون».
إذاً، فجأة، ومن دون سابق إنذار، ذهب إصرار «إسرائيل» على تدمير حزب الله كما ذهب أيضاً ادّعاء الناتو قبولها تواجد وحداتها كقوات حفظ السلام على الحدود. وفي 25 تموز، أعلنت «إسرائيل» مقتل أبي جعفر، وهو قائد «القطاع الأوسط» في حزب الله على الحدود اللبنانية، وذلك خلال تبادلٍ لإطلاق النار مع القوات «الإسرائيلية» قرب قرية مارون الراس، ليتبين بعد ذلك أن التقرير غير صحيح، وهذا ما أعلنه أبو جعفر رسمياً بعد الحرب.
وفي وقت لاحق من 25 تموز، وأثناء زيارة وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس القدس، خاض الجيش «الإسرائيلي» معركة شرسة في بلدة بنت جبيل استمرّت لتسعة أيام، تلك البلدة التي أطلقت عليها «إسرائيل» «عاصمة إرهاب حزب الله». لم تسقط البلدة في أيدي «الإسرائيليين» بل تمكن هؤلاء من تدميرها بالكامل، وتمكن مقاتلو حزب الله من الصمود على رغم القصف الجوّي والمدفعي المتكرّر.
ذكرتنا تكتيكات حزب الله بتلك التي اتبعها الجيش الفييتنامي الشمالي خلال الأيام الأولى للحرب هناك، حين أمر قائد قواتهم الخاصة بالحاجة إلى التخلّص من القنابل، ثمّ محاربة الأميركيين في وحدات صغيرة. وأخبرهم حينذاك أنه عليهم الاستيلاء على الأميركيين من خلال أبازيم أحزمتهم.
في 24 تموز، بدأت تلوح في الأفق بوادر خسارة أخرى في لبنان، فقد نشرت «إسرائيل» آلافها الأولى من القنابل العنقودية ضدّ ما وصفوه بـ«مواقع حزب الله» في الجنوب اللبناني. تشكل الذخائر العنقودية أداةً فعّالةً في القتال، وقد رفضت الدول الأعضاء في حلف الناتو، وكذلك روسيا والصين ـ باستمرار ـ الدخول في معاهدة تقضي بحظر استخدام هذا النوع من الأسلحة.
وبينما لم تنته بعد التحقيقات في شأن استخدام «إسرائيل» هذه الذخائر، يبدو واضحاً الآن أن الجيش «الإسرائيلي» استخدم ذخائر منصهرة. وتشير التقارير الأخيرة في الصحافة «الإسرائيلية» إلى أن ضباط المدفعية قد أغرقوا عشرات القرى اللبنانية بالقنابل العنقودية، وذلك من خلال أسوأ استخدام عشوائي للنيران والقذائف يمكن أن يحصل.
وربما تكون الولايات المتحدة قد باعت «إسرائيل» هذه الذخائر من مخزونها القديم ما يجعلها متواطئة مع تلك الأخيرة في هذا الاستهداف العشوائي. ومثل هذا الاستنتاج قد يبدو متناسباً مع خط إمداد الذخائر إلى «إسرائيل» يوم 22 تموز. قد يكون الجيش «الإسرائيلي» قادراً على تفريغ هذه الذخائر ونشرها بسرعة كافية لخلق أزمة القنابل العنقودية وأوبئتها في لبنان، ابتداءً من ذلك التاريخ.
وفي 26 تموز أقرّ المسؤولون في الجيش «الإسرائيلي» أن الساعات الـ24 الماضية للقتال في بنت جبيل كانت من أصعب ساعات القتال في الجنوب اللبناني. وبعد الفشل في الاستيلاء على البلدة من قبل حزب الله في الصباح، قرّر قادة الجيش «الإسرائيلي» إرسال «لواء غولاني للنخبة» إلى المنطقة. وبعد ساعتين من ظهر ذلك اليوم، قُتل تسعة من جنود هذا اللواء وجُرح 22 آخرون. وفي وقت متأخر من اليوم نفسه، أرسل الجيش «الإسرائيلي» «لواء النخبة» من قوّاته المظلية إلى مارون الراس، حيث دخل في القتال مع عناصر «لواء نصر» في اليوم الثالث.
في 27 تموز، وردّاً على فشل وحداتها في السيطرة على هاتين المدينتين، وافقت الحكومة «الإسرائيلية» على استدعاء ثلاث فِرق أخرى من الاحتياطي أي بمعدّل 15000 جندياً. وفي 28 تموز، أصبح جلياً مدى فداحة فشل سلاح الجوّ «الإسرائيلي» في محاولاته وقف هجمات حزب الله الصاروخية. وفي ذلك اليوم نفسه، نشر حزب الله صاروخاً جديداً ـ «خيبر 1» ـ الذي ضرب منطقة العفولة.
في 28 تموز، وبسبب الفشل الذريع للعمل الاستخباري «الإسرائيلي» والذي بلغت أصداؤه الجمهور «الإسرائيلي». سرّب «الموساد» بعض المعلومات التي كانت في تقديرهم تدلّل على أن وحدات حزب الله لم تتعرّض إلى إصابات فادحة أو تدهوراً كبيراً في قدراتها العسكرية، وأن المنظمة قد تكون قادرةً على الاستمرار في القتال لعدّة أشهر أخرى. اختلف الجيش «الإسرائيلي» مشيراً إلى التضرّر الكبير الذي لحق بحزب الله وبدأت تظهر للعلن الشقوق الكبيرة في مجتمع الاستخبارات «الإسرائيلية».
وعلاوةً على ذلك، والأمر الأكثر أهمية من كل هذا، إثبات مقاتلي حزب الله مدى تفانيهم وانضباطهم. تمكّنت الاستخبارات من تحديد اختراقات المشاة «الإسرائيلية»، وبرهنت أن الوحدات القتالية «الإسرائيلية» هي الأفضل. وفي بعض الحالات، أُلحقت الهزيمة ببعض الوحدات القتالية على أرض المعركة، ما أجبرهم على تنفيذ الانسحابات المفاجئة أو الاضطرار إلى الاعتماد على الغطاء الجوّي لإنقاذ العناصر من التعرّض للإطاحة. وحتى مع اقتراب نهاية الحرب في 9 آب، فقد أعلنت قوات الجيش «الإسرائيلي» عن مقتل 15 من جنودها الاحتياطيين وجرح 40 آخرين أثناء جولات القتال في قرى مرجعيون، الخيام، وكفركلا، ما أشار إلى معدّل إصابات مرتفع ومذهل على قطعة عقار هامشية في المنطقة.
وقد كان لدفاع حزب الله القوي آثاره التدميرية أيضاً على المدرّعات «الإسرائيلية». فعندما وافقت «إسرائيل» أخيراً على وقفٍ لإطلاق النار وبدأت تحقق انسحاباتها من المنطقة الحدودية، تركت وراءها أكثر من 40 عربة مدرّعة مختلفة من أمثال «ساغر» و«سلكيا».
وقبل تنفيذ وقف إطلاق النار، قرّرت مؤسسة السياسة «الإسرائيلية» القيام بإنزال مظلّي على طول المناطق الواقعة على نهر الليطاني. وجاء هذا القرار بمثابة وسيلة أو حجة منطقية لإقناع المجتمع الدولي أن قواعد الاشتباك لقوات الأمم المتحدة، ينبغي أن تمتدّ نحو الليطاني جنوباً.
نُقل عدد كبير من القوات «الإسرائيلية» إلى مناطق رئيسة جنوب الليطاني لتحقيق هذا الهدف، وقد جاء هذا القرار كارثياً، حيث أن معظم القوات الجوّية «الإسرائيلية» كانت مُحاطة بوحدات حزب الله. وقد أغضب هذا القرار السياسي الضباط المتقاعدين في الجيش «الإسرائيلي»، إلى حدّ اتهام أولمرت بمغازلة الجيش «الإسرائيلي» واستخدامه لتحقيق أغراض وأهداف العلاقات العامة.
ولعلّ أكثر علامات الفشل «الإسرائيلي» وضوحاً، جاءت في أعداد القتلى والجرحى. تدّعي «إسرائيل» إلى الآن أنها قتلت 400 500 مقاتلاً من حزب الله، في حين كانت خسائره أقلّ بكثير. غير أن المحاسبة الأكثر دقة تشير إلى أن خسائر حزب الله و«إسرائيل» متساوية تقريباً. ومن المستحيل على الشيعة وحزب الله ألا يقوموا بتشييع مشرّف لشهدائهم. ولم تكن هذه التشييعات بأقلّ من 180 تشييعاً، وهو رقم تقريبي جداً للجنازات التي أُقيمت في الجانب «الإسرائيلي». لا يجوز لنا أن ننقح هذا الرقم بشكل تصاعدي: فأحدث المعلومات التي لدينا من لبنان تقول أن عدد الشهداء المشيعون في الجنوب هو على وجه التحديد 184 جنازةً.
لكن، وقبل أيّ محاسبة، سواء على صعيد الصورايخ، المدرّعات أو عدد القتلى والجرحى ـ فإن قتال حزب الله ضدّ «إسرائيل»، يُفترض أن يُمنح نصراً عسكرياً وسياسياً حاسماً. وحتى لو كان الأمر غير ذلك، وهذا ما ليس واضحاً إلى الآن، وقد أدّى إلى تأثير قوي وشامل لحرب «إسرائيل» مع حزب الله والتي دامت 34 يوماً في تموز وآب، وسبّبت زلازل وارتدادات عدّة في المنطقة بأسرها.
إن الهزيمة العسكرية التي ألحقتها قوات حزب الله بـ«إسرائيل» كانت حاسمة وساطعة، غير أن الهزيمة السياسية للولايات كانت كارثية للغاية، وأدّت إلى كسر هيبتها في المنطقة، هي التي انحازت بلا حدود إلى «إسرائيل» خلال الحرب، ورفضت السماح ببلوغها خواتيمها.
الجزء الثالث والأخير: حزب الله يكسب المعركة السياسية