مصالحات أردوغان مع روسيا وإيران: لا شيء يمنع أن تكون لقمع الداخل وخداع الخارج

محمد شريف الجيوسي

هل يعيد النظام التركي بزعامة أردوغان حساباته، في ضوء جملة معطيات قائمة ومتغيرات مستجدة داخلية وخارجية وأوضاع إقتصادية وأمنية ووطنية في تردٍ ظاهر، هي في غالبها نتاج سياسات رعناء مقامرة راهنت على وهم.

لقد بنى النظام التركي أحلاماً دونكيشوتية على آلام آخرين، في المقدمة منهم سورية، رغم أن الأخيرة تعاملت مع تركيا على أحسن ما يكون عليه التعامل بين متجاورين، كان بعض هذا التعامل على حساب الصناعة السورية، في جانب، فيما كان إزدهار الإقتصاد التركي، قبل إستفحال تدخلها التآمري بأزمات المنطقة، في جانب منه نتاج إنفتاح سورية عليها، ودخول منتجاتها إليها وعبرها إلى دول ومناطق عديدة.

لكن لا ينبغي تقييم تعامل سورية الإيجابي، قبل إفتضاح التآمر التركي عليها، على نحوٍ سلبي، فقد كانت لسورية حساباتها الإستراتيجية الإيجابية في صالح الإقليم ككل، أسقطها التآمر الأردوغاني وعدم وفائه وأوهامه ومراهانته الإسلاموية-الإخونية باستعادة السلطنة العثمانية-الطورانية-التركية.

لم تقدم السلطنة للعرب سوى التخلف على كل الصعد والجهل والخرافات، ومهدت لسقوطها باستقدام الإرساليات الأجنبية، والمشروع الصهيوني، على النقيض من الروايات الإسلاموية بأن السلطنة رفضت قيام كيان يهودي، فقد أقيمت أول مستوطنة يهودية في عهد السلطنة في أقصى شمال فلسطين على اراضي قرية المطلة. وزار قيصر المانيا في العهد العثماني مستوطنة يهودية أخرى في مرج بني عامر بفلسطين، كما زار القدس واستقبل رسمياً من قبل اليهود.

أقول أن سلطان تركيا الجديد أراد استعادة أمجاد بني عثمان المغرقة بالتخلف، وإعادة زرعها في البلاد العربية ونهب ثرواتها لصالح السلطنة الجديدة، مرة أخرى باسم الإسلام الحنيف، مستغلاً بذلك المناخ الذي هيأت له الولايات المتحدة الأميركية كل الظروف، بالشراكة مع مكتب الإرشاد العالمي، في صفقة شاملة، تتيح للإسلام السياسي الإستيلاء على الحكم، مقابل حرف بوصلة الصراع عن الكيان الصهيوني باتجاه إيران، وتقسيم العالم الإسلامي إلى سنّة وشيعة، يضرب بعضهم بعضاً، بالنيابة عن أميركا وعن العواصم الإستعمارية الأوروبية والكيان الصهيوني.

وكاد هذا المشروع أن ينجح، لولا إستيقاظ الشعبين المصري والتونسي، وتعثره في ليبيا واليمن، وافتضاح فكره التكفيري الدموي الجاهلي، وزوال خطره عن الأردن ولو مؤقتا وارتداده في العراق، وتوقفه بل فشله في المحطة السورية، رغم كل الخسائر والدمار الذي أوقعه.

لعبت التناقضات داخل المعسكر العربي- التركي الداعم للحرب على سورية والعراق، دوراً في إفشال المخطط الأميركي في بعض مناطق المنطقة، من دون قصد منه، فالسعودية الوهابية ليست في موقع الترحيب بظهور أنظمة إسلامية تنافسها الزعامة في الوطن العربي والعالم الإسلامي، من هنا كانت ومن معها ضد إستمرار النظام الإخواني في مصر بقيادة مرسي العياط، وقدمت دعما سخياً للنظام الجديد.

ولم يتوقف فشل المشروع الأميركي- الغربي- الصهيوني- الإقليمي- الرجعي، عند هذا الحد، بل بدأ يرتد على مخططيه ومموليه ومنفذيه وداعميه عسكرياً وسياسياً وإعلاميا، فالإرهاب ليس له صديق أو حليف على المديين المتوسط والبعيد، ولا دين ولا جغرافيا له، ولا لغة أو حدودا أو ضوابط لمطامعه وهواجسه وتخلفه ومعاييره المريضة.

وهكذا بدأت السعودية وتركيا وبلدان أوروبية عديدة تعاني منه .

وبالتزامن مع هذه المعاناة المتصاعدة، خرج المعسكر المنشيء للإرهاب وهو ما أقرت به هيلاري كلينتون أمام الكونغرسـ وأقرّ به عدد من القيادات الأميركية والغربية ومراكز الدراسات ووسائل الإعلام بمزاعم وجود معارضة معتدلة، لتبرير استمرار تعامله مع جماعات إرهابية لا تقل دموية عن غيرها، والتضحية ببعضها، عند استنفاذ مهماتها تماماً.

وكان وضع النظام التركي أشد صعوبة من غيره تجاه المستجدات، فبعد خمس سنوات وخمسة أشهر من الحرب الضروس على سورية، وتصدير السلاح والعتاد والإرهابيين والمال للعصابات الإرهابية إليها عبر الحدود التركية، بات الإرهاب يتجول داخلها، وبات أمر تفتتها ممكناً في ضوء استعادة أكرادها الحرب عليها، جراء نزع الحصانة عن نواب حزب الشعوب في البرلمان التركي، وما بدا ممكنا بعد ظهور مليشيا كردية ناشطة في سورية، واحتمال إقامة إدارة ذاتية لأكراد سورية، رغم محدودية المساحة والعدد بالقياس لأكراد تركيا، وهو ما لم يحسبه نظام أردوغان جيداً بتآمره على سورية.

لقد جلبت الحرب التركية على سورية عداوة العراق وإيران لها إلى حدٍ بعيد، ما أضر كثيراً بتجارتها وسياحتها، وأمنها الداخلي، بتعاون أكراد العراق وسورية مع أكراد تركيا وبالعكس أيضاً، وبذلك لم يعد لتركيا أي جوار آمن وصديق.

وازدادت الشقة بين نظام تركيا الراهن وبين الغرب وأوروبا، وبات حلم تركيا الإنضمام للإتحاد الأوروبي أبعد منالاً من أي وقت مضى، على خلفيات الموقف من: حقوق الإنسان، الديمقراطية، الأكراد، الاعتقالات الواسعة الأخيرة التي تنم عن عقلية فاشية، أساليب التعامل مع الملف السوري والمصالحة مع روسيا التي أضيف إليها مؤخراً إيران.

وبذلك، لم يكن امام نظام اردوغان، سوى المناورة بما قال أنه تحسين العلاقات مع الكيان الصهيوني، تلك العلاقات التي لم تنقطع، والتي بدت على غير حقيقتها لغايات الاستهلاك الداخلي التركي والعربي الشعبي، وصولاً إلى استلاب شعبية سورية وإيران والمقاومة اللبنانية التي نمت في أعقاب عدوان تل ابيب على المقاومة ولبنان سنة 2006 على مدى 33 يوماً، من دون أن يحقق العدوان أغراضه أو يلزم المقاومة بأي تنازل.

وأتبع اردوغان المناورة تلك، بالإعتذار لروسيا، التي أوجعته بما اتخذت من إجراءات ضد نظام حكمه جراء اسقاطه طائرة روسية ودعمه للإرهاب وتسويقه للنفط المسروق من سورية والعراق. وقد فرضت الضرورة عليه، لا ترف القناعات ولا الظرف الحسن، التوجه إلى روسيا، التي تمتلك من الأوراق الضاغطة والأوضاع المريحة والملفات المعلّقة مع تركيا وأهمها ملفي سورية وشبه جزيرة القرم أو أوكرانيا.. وليس في مقدور موسكو بتاتاً التفريط بأي مما تعتبره استراتيجياً وخصوصا سورية، في مقابل استعادة تركيا العلاقات معها الى سابق ما كانت عليه، بل وجعلها أفضل، في وقت تعيش فيه تركيا أسوأ حالاتها منذ عقد ونصف العقد وأكثر، على كل الصعد ، مدمرة كل ما أنجزنه.

وإذ تعلم تركيا أن تحسن علاقاتها مع روسيا يتعلق إلى حد كبير مع حليف موسكو الرئيس في سورية، إيران، جرت بالتزامن محادثات تركية إيرانية أيضاً، وكان صلب المحادثات إضافة للعلاقات الثنائية بينهما، الملف السوري، حيث لا يمكن أن تستقيم العلاقات التركية مع كل من روسيا وإيران والعراق وسورية، من دون سحب يدها من التدخل في الشأن السوري، وجوهره وقف دعم العصابات الإرهابية وإغلاق حدودها الممتدة مع سورية، بكل ما يعني ذلك من إجراءات.

إن التزام تركيا الجدي، سيتيح لها استعادة علاقاتها مع كل من موسكو وطهران وبغداد، وحلفاء آخرين، وسيجعلها في وضع أفضل مع حلفاء الأمس، الآيلة علاقاتها بهم الى تراجع وتنازع محتمل.

لكن إستمرار توغل نظام أردوغان في القمع والتطرف والأحلام الإسلاموية الإخوانية المذهبية، والتقلب السياسي الذي عرف به، وعدم الوفاء لحلفاء الداخل والخارج وطعنهم من دون مبرر، وعدم صدقيته في التعامل مع الشركاء، واستمرار استخدامه العنف الدموي في التعاطي مع قضايا الداخل والخارج، والأحلام السلطانية، كل ذلك سيضع حدوداً تمنع أن تأخذ العلاقات مع هذه الدول وغيرها مدياتها المؤملة، بل وقد تعود للإنتكاس.

باختصار، أردوغان الآن أكثر من مضطر للمصالحة مع من ذكرت، لكن مدى حرصه وصدقيته في المصالحة، ذلك ما لا يمكن الركون إليه أو الاعتماد عليه حتى في المدى المنظور. ولا بد أنه سيستخدم ذلك، في تحسين أوضاعه مع حلفاء الأمس، وليس بعيداً أبداً، إستخدام المصالحات لتحقيق قمع أشد تجاه خصومه في الداخل، وهو ما ينبغي أن يلاحظ روسياً وإيرانياً، بحيث لا تكون المصالحات عناصر ابتزاز للداخل، وإيحاء بعلاقة ذلك بها.

m.sh.jayousi hotmail.co.uk

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى