بيت العنكبوت يلاحق نتنياهو

جوني منصور

لا تزال حرب تموز 2006 أو كما يُطلِق عليها «الإسرائيليون» حرب لبنان الثانية، وهي من بدايتها وحتى نهايتها عدوان «إسرائيلي» على لبنان أرضاً وشعباً وسيادة، الأكثر جدلاً في أروقة السياسيين والعسكريين ومن صانعي القرار، وأيضاً في الشارع «الإسرائيلي» العام وفي المؤسسات والهيئات البحثية والإعلامية. بمعنى آخر، فإنّ هذه الحرب تُشغل «الإسرائيليين» أكثر من حرب 1948 والتي يُطلق عليها «الإسرائيليون» «حرب التحرير»، و «حرب الاستقلال».

صدرت العشرات بل المئات من الأبحاث والدراسات والمقالات والنقاشات والتقارير حول حرب تموز 2006. وكلّ هذه تصبّ في خانة بناء استراتيجية مستقبلية لكيفية إعادة «كرامة الجيش الإسرائيلي» التي ضربت في صميمها. أضف إلى ذلك أنّ كلّ هذه الأبحاث تعمل معاً من أجل مساعدة متخذي القرار على صقل وبلورة مشروع حرب جديدة على لبنان، آتية قريباً أو بعيداً.

وبما أنّ ذكرى الحرب العاشرة حاضرة الآن في وجدان وذاكرة اللبنانيين والفلسطينيين و«الإسرائيليين» والعرب أيضاً، فإننا نودّ أن نلقي نظرة خاطفة على الأسباب الدافعة لهذه الحرب ونتائجها والعبر المستخلصة منها.

كان، وأعتقد لا يزال، مشروع «إسرائيل» بتشييد منطقة عازلة مع لبنان، من خلال تشكيل حزام بين الحدود ونهر الليطاني، فيه أقلّ ما يمكن من الكثافة السكانية، أيّ عدد قليل من القرى اللبنانية، وعدم وجود أيّ قوة أمنية لبنانية سواء الرسمية أيّ الجيش وطبعاً عدم وجود المقاومة اللبنانية الممثلة بحزب الله.

لكن هذا المشروع باء بالفشل الذريع بهرب فلول الجيش «الإسرائيلي» في عام 2000 دون تحقيق أيّ جزء أو مركب من مشروعه هذا. وعادت منطقة الجنوب اللبناني تهنأ بالهدوء والاستقرار وزاد عدد سكان المنطقة، وتحسّنت أحوالها الاقتصادية والعمرانية والتي يمكن ملاحظتها بمجرد النظر عبر الخط الحدودي في الشمال نحو هذه القرى أو بعض منها.

من جهة ثانية، أرادت «إسرائيل» تسديد ضربة للمقاومة اللبنانية من خلال قصف جوي ونسف للضاحية بفترة زمنية قصيرة جداً لدفع قيادة المقاومة إلى رفع الراية البيضاء. وهدف «إسرائيل» هو تجريد الأراضي اللبنانية من وجود أيّ حركة مقاومة ضدّها، فنجحت في إخراج منظمة التحرير الفلسطينية في 1982 إلى تونس وتصفية عدد من قياداتها، وجرّها الى مفاوضات مدريد ثم إبرام الاتفاقيات المذلة في أوسلو. وطبعاً، لم تُرفع راية بيضاء من قبل اللبنانيين والمقاومة.

بعزل لبنان، في ما لو تمّ ذلك، تنجح «إسرائيل» في تشكيل تحالف بين لبنان والولايات الأميركية وجعل لبنان يخضع لإملاءات «إسرائيل» وأميركا. لكن وجود المقاومة صعّب المعادلة بشكل كبير جداً. فحاولت «إسرائيل» اختراق لبنان عبر شبكات تجسّسية كبيرة لمعرفة تحركات حزب الله، لكنها في هذا الميدان أيضاً لحق بها فشل ذريع، ونجحت بطريق غير مباشر في خلق معارضة لبنانية داخلية للمقاومة متمثلة بتيار المستقبل المتماثل مع سياسات الولايات المتحدة وبعض دول الخليج، وعلى رأسها المملكة السعودية.

إذن، محاولة «إسرائيل» تصفية المقاومة حزب الله كان أحد أبرز أهدافها، وفي حالة تحقيق النجاح من وراء ذلك تكون «إسرائيل» قد حققت المزيد من هيمنتها على المنطقة وفرض أجندتها السياسية والعسكرية، لتبقى اللاعب الأقوى والحارس الأكبر للمنطقة.

لكن، ما حصل في حرب تموز 2006 هو العكس تماماً، حيث إنّ «إسرائيل» تلقت صفعات مدوّية كضرب مواقع عسكرية «إسرائيلية» حساسة، وضرب بارجة حربية مزوّدة بأحدث الوسائل القتالية التكنولوجية… ومصداقية الرسائل التي بثّها ويبثّها أمين عام الحزب السيد حسن نصرالله… كلها جعلت الشارع «الإسرائيلي» العام يميل إلى الثقة بما يقوله ويبثه، أكثر مما ينقله إليه سياسيّو «إسرائيل».

بعد هذا العرض السريع والخاطف لعدد من النتائج، نميل الآن إلى عرض موجز لعدد من النتائج والعبر من هذه الحرب، ومنها:

بيّنت هذه الحرب وجود خلل في المنظومة العسكرية، في مقدّمته التعالي والغطرسة التي أغرقت عدداً من القيادات في الجيش لدرجة الاستهزاء بقدرات المقاومة وعدم قياسها بشكل صحيح. ومن جهة أخرى، عدم اعتياد جنود جيش «إسرائيل» على هذا النوع من القتال الذي مارسه مقاومو حزب الله، نعني به قتال العصابات، وأيضاً استخدام الاستحكامات والأنفاق.

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى التغييرات التي حصلت على العقيدة العسكرية «الإسرائيلية» إنْ وجدت مثل هذه العقيدة بصورة رسمية ألا وهي جعل الحرب في أرض العدو وإلحاق أكبر هزيمة به. لكن في هذه المرة، أيّ في حرب تموز 2006 كان جزءاً من الحرب على «أرض إسرائيل». إذ وصلت صواريخ المقاومة إلى ما بعد بعد حيفا، وخلقت فزعاً ورعباً شديدين في أوساط «الإسرائيليين» الذين كانوا واثقين أنّ جيشهم الأسطوري لن ينتكس، بل سيقوى ويقف في مواجهة هذه الصواريخ… لكن هذا لم يحدث… فكانت الحرب ولأول مرة على «أرض إسرائيل» منذ عام 1948.

تحويل الحرب من أرض العدو بالمفاهيم «الإسرائيلية» إلى «إسرائيل»، كوّن قوة ردع جديدة على الحدود مع لبنان. لأنّ «إسرائيل» تدرك أنه بعد عشر سنوات على هذه الحرب التي لا تريد أن تتذكّرها، أنّ حزب الله يمتلك الآلاف من الصواريخ التي يمكن أن تصل إلى أي موقع فيها. أصبح أيّ موقع في «إسرائيل» على مرمى صواريخ حزب الله. وهذا في حدّ ذاته قوّض نظرية «إسرائيل التي لا تُقهر»، و«إسرائيل القادرة على صدّ أيّ هجوم خارجي آتٍ عليها».

إذن، هناك تغييرات نجمت عن هذه الحرب، في منظومة الاستعدادات «الإسرائيلية» لحالة حرب مقبلة، وأعتقد لا محالة. حيث إنّ «إسرائيل» لن تقفز عن هذه الحرب دون أن «تُبيض» وجهها ولو أمام مستوطنيها… لكن أيّ تبييض سيحصل!!! الله أعلم.

من جهة أخرى، تدأب حكومة «إسرائيل» على التخلّص من شبح «بيت العنكبوت» الذي يلاحقها منذ تلك الحرب. حيث وصف السيد حسن نصرالله الجيش «الإسرائيلي» عند خروجه مهزوماً في بنت جبيل عام 2000 كبيت العنكبوت للدلالة على الضعف والوهن والارتخاء وعدم معرفة البوصلة الصحيحة. نتنياهو وقيادات عسكرية كثيرة كانت مصمّمة في عدوانها في 2006 على العودة إلى بنت جبيل وسحق بيت العنكبوت نهائياً. لكن ذلك لم يتحقق بالمرة. لكن، لا يزال بيت العنكبوت مُلاحقاً أحلام ويقظة نتنياهو وقياداته السياسية والعسكرية منذ حرب تموز 2006. وأشار نتنياهو إلى ذلك في خطابه لمناسبة الذكرى العاشرة لهذه الحرب في الكنيست «الإسرائيلي» قبل أسابيع قليلة.

لكن هذه الرمزية في وصف الحدث، تحمل في طياتها صناعة تخويف وتفزيع المستوطنين بأنّ الخطر المقبل سيكون أصعب وأشرس من السابق. فـ «إسرائيل» بثت سيناريوات تشير إلى مخططات حزب الله باحتلال مستوطنات ومواقع عسكرية «إسرائيلية» في الجليل. بمعنى آخر، لأول مرة ترسم «إسرائيل» سيناريو اجتياح المقاومة حدودها مع لبنان نحو الجليل. طبعاً، هذا السيناريو يقضّ مضاجع «الإسرائيليين» عموماً، وخصوصاً الساكنين في المناطق الحدودية، لدرجة أنهم تُخيّل إليهم أصوات تحت الأرض…

الخلاصة التي يمكننا الإشارة إليها هنا إلى أنّ «إسرائيل» 2016 ليست كما كانت في 2006. وأنّ قدرات وطاقات حزب الله تزايدت واتسعت ترسانته الحربية وخبرته في أعقاب مشاركته الفعلية في الحرب في سورية إلى جانب الجيش العربي السوري ودعم الطيران الروسي. وهذه المشاركة تضاف إلى سجل تطوير قدرات حزب الله وتعزيز مكانته في لبنان والمنطقة عموماً كقوة مقاومة كلّ ما يمكن أن يؤدّي إلى زعزعة الموقف العربي الثابت بمواجهة الموجة الاستعمارية التي تقدها الولايات المتحدة بدعم وتحالف مع عدد من الدول الغربية والأنظمة العربية الرجعية المتآكلة.

الحرب المقبلة ستكون مختلفة كلياً، وبالتالي ما ستفرزه سيكون مختلفاً أيضاً… هل ستلد الأيام المقبلة فرصاً أخرى غير الحرب…؟ هذا ما لا يمكننا جزمه في ظلّ الظروف السياسية والعسكرية التي تمرّ بها المنطقة حالياً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى