لا خصوصية ولا حصانة في السياسة؟
أوحى لي أحدٌ، ولا أقول آخر، كشوفات مؤسس موقع «ويكيليكس» جوليان أسانج بخواطر وجدتُ أنه من المناسب كشفها أيضاً. كشْفُ أسانج المقصود يتمحور حول المرشحة الرئاسية الأميركية هيلاري كلينتون. أهمّ «الأسرار» المكشوفة خمسة:
ـ انّ إدارة باراك أوباما، أثناء ولاية هيلاري كلينتون كوزيرة للخارجية، استخدمت ليبيا لنقل السلاح إلى سورية.
ـ هيلاري لها علاقات بروسيا أكثر من المرشح الجمهوري دونالد ترامب.
ـ أنّ شركة «لافارج» الفرنسية متورّطة في سورية، وتحقيق صحيفة «لوموند» الفرنسية أثبت أنّ الشركة دفعت لـِ «داعش» في سورية، وأنّ أموال الشركة ذهبت في العامين 2015 و 2016 إلى مؤسسة كلينتون.
ـ وجود علاقة قوية بين مؤسسة كلينتون والسعودية، وأنّ المملكة النفطية «هي الأرجح أكبر جهة دولية مموّلة لهذه المؤسسة، وبإمكانك أن ترى سياسات كلينتون في ما خصّ تصدير السلاح كانت تميل لصالح السعودية».
ـ أنّ «بعض الديمقراطيين يخشون مفاجأة سيئة قد تنفجر في تشرين الأول/ أكتوبر المقبل بحملة مرشحتهم الرئاسية».
هيلاري كلينتون متعوّدة على تلقّي المفاجآت والفضائح «السرية» المدوّية. مواقعة زوجها، الرئيس السابق، لسكرتيرته المتمرّنة في مكتبه بالبيت الأبيض معروفة، وقد غفرت له هيلاري فعلته تلك. لكن ترامب وأنصاره الجمهوريين، وربما غيرهم أيضاً، وبصرف النظر عن صحة ما يكشفه أسانج عن هيلاري أو عدم صحته، فلن يغفروا لها ما فعلت وسيستعملونه ضدّها بالتأكيد.
المهم أنّ المعرفة قوة، وأنّ التقدّم الهائل في تكنولوجيا المعلومات قد مكّن أسانج وغيره على الإحاطة بكمٍّ هائل من الوقائع والأسرار والخفايا والخصوصيات في جميع الأوساط والحقول والبلدان، وخصوصاً تلك المعلومات التي «تخص» أهل السياسة ويحرصون غالباً على إبقائها طيّ الكتمان.
يتأسّس على هذه الحقيقة أن لا خصوصية مع تقدّم تكنولوجيا المعلومات والتلصّص والتجسّس والتنصّت، ولا حصانة تالياً لجميع من يتخذ قراراً أو يرتكب مخالفة أو يقوم بعمل يعتبره الغير مضراً به أيّاً كانت أسبابه ومبرّراته.
لانعدام الخصوصية وتهافت الحصانة مفاعيل وتداعيات لافتة وخطيرة في الشؤون الخاصة، كما في الشؤون العامة.
في الشؤون الخاصة، أصبح كلّ شخص مكشوفاً أمام الآخرين في كلّ زمان ومكان. معنى ذلك أنّ عليه أن يلتزم بدقة متناهية ما يعتبره المجتمع الأهلي والدولة وأجهزتها تشريعات وأنظمة وضوابط واجبة الاحترام والتنفيذ، تحت طائلة المسؤولية المدنية والجزائية، أو أن يضيق الناس ذرعاً بها فيتمرّدون عليها بأشكال متعدّدة، الأمر الذي يفضي إلى أحد أمرين: فوضى شاملة تعيد الإنسان إلى العصر البدائي الوحشي، أو إلى اجتراح نظام أو أنظمة جديدة للحياة والسلوك والعمل أو الامتناع عن العمل على نحوٍ لا يمكن التنبّؤ سلفاً بما يمكن أن تكون عليه.
في الشؤون العامة، أصبحت كلّ سياسة أو خطة أو موقف مكشوفاً أمام الآخرين، ولا سيما أمام الأعداء. لا يحضرني الآن اسم رئيس أحد مراكز الأبحاث الاستراتيجية الأميركية الذي نشرت له قبل سنوات مجلةُ «فورين افيرز» الرصينة دراسة يؤكد فيها أنّ الصين قادرة على إجهاض أيّ حرب تشنّها عليها أميركا قبل أن تبدأ. كيف؟ بقدرتها على الإحاطة بمضامين كلّ حواسيب Computers وزارة الدفاع «البنتاغون» والجيش الأميركي بما هي خزائن السياسات والخطط والمخططات…
قد يقول قائل إنّ قدرات الدول على الإحاطة بكلّ ما تخطط له إحداها ضدّ الأخرى تحول دون اندلاع الحروب وتخدم تالياً قضية السلام. ربما يكون هذا الاستشراف أو الاستخلاص أو التوقع صحيحاً بما يخصّ العلاقات أو الخصومات بين الدول، ولا سيما ما يتعلق منها بمسائل الحروب. لكن ما انعكاسات ذلك على قضايا الأمن الداخلي، أمن الناس الشخصي وأمن المؤسسات المولجة أمور الأمن والسلامة العامة؟ إذا كان في وسع اللصوص والمجرمين الإحاطة بكلّ قدرات وخطط وتحركات قوى الشرطة والأمن الداخلي، فهل يبقى شخص أو جماعة أو مؤسسة بمنجاة من هؤلاء اللصوص والمجرمين؟
إلى ذلك، أدّى التطوّر الهائل في تكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها العملية وسهولة التواصل بين الأفراد والجماعات من خلال أجهزة التواصل والاتصالات والمواصلات إلى نشوء ظاهرة مذهلة هي تعدّدية الرأي المليونية بل البليونية المليارية . إنّ سهولة نقل التفكير إلى تعبير وبالتالي إلى آراء ومواقف من جهة، ومن جهة أخرى سرعة تغيّرها وتبدّلها قد يؤدّي إلى نشوء ظاهرة أخرى بالغة الخطورة هي صعوبة، وربما استحالة، وصول الناس، أفراداً وجماعات ومواطنين في دول ومؤسسات، إلى قرارات جماعية تمثل الغالبية. حتى لو أمكن التوصل إلى قرار يمثل الغالبية أو الأكثرية فإنّ الأكثرية تبقى عرضة دائماً للتغيّر والتبدّل بسرعة قياسية.
ظاهرة تبدّل الأكثرية بسرعة قياسية قد تؤدّي بدورها إلى نشوء ظاهرة أخرى، لافتة وخطيرة أيضاً، هي تعقيد مسألة الحكم بمعنى ممارسة السلطة، إذْ سيصعب على «أهل» السلطة ممارستها وسط كمٍّ هائل من الآراء والمواقف، وتبدّل قياسي فيها، وصعوبة التوصّل إلى غالبية ثابتة بشأنها، وتراخي الضوابط الأمنية نتيجةَ اختراقها السهل من قبل محترفي كشفها والمتمرّدين عليها لغايات دنيئة.
كيف الخروج من هذه الحال المستقبلية التي تبدو خطيرة؟
لا مخرج جاهزاً في الحاضر والمستقبل المنظور، ذلك لأنّ البشرية في حال تطوّر وتغيّر متواصلين، وما نقع عليه أو نمارسه في الحاضر هو نتاج مئات آلاف القرون والأجيال من حياة البشرية.
الوجود والحياة كفيلان، من خلال التجربة والخطأ والتصويب، بابتداع مخارج وحلول وتسويات لما تكابده البشرية من أزمات ومشاكل وصعوبات على مرّ التاريخ.
وزير سابق