ذكّر إن تنفع الذكرى
قبل سنة بالتمام والكمال، كان قرع طبول الحرب على سورية قد بلغ مداه، والكل يجمع على أنّ الحرب آتية لا ريب فيها. وكنت أرى أن الحرب وراءنا، وأن صراخ واشنطن يبحث عن تسوية عنوانها السلاح الكيماوي مثل تحويل استخدامه إلى المحكمة الجنائية الدولية. وموسكو ترفض في المفاوضات السرية، وصولاً إلى ما حدث فعلاً بعد أيام بطرح موسكو ودمشق مشروع تسليم الكيماوي للأمم المتحدة، بإعلان انضمام سورية إلى منظمة حظر انتشار السلاح الكيماوي، ورسم سيناريو يقوم على مبادرة واشنطن لطلب ذلك ليبدأ مسار جديد وهذا ما كان. في هذا المقال قبل سنة كنت حاسماً برفض فكرة الحرب، وكنت متأكداً أن تسوية ما لا بد أن تولد. الأهم، أنّ الثقة ناجمة عن قراءة توازنات لا تكسر تجعل الحرب على سورية استحالة، وهذه فائدة إعادة القراءة اليوم بعين الأمس، لأن البعض عاد يتحدث عن حرب على سورية تحت مظلة ضربات على «داعش».
قدرة الردع الأميركية 28/8/2013
ـ عندما أعلنت واشنطن السلاح الكيماوي عنواناً لما أسمته «الخط الأحمر»، كانت تدرك أن في يدها تصنيع ملف سوري اسمه الخطر على السلاح الكيماوي أو منه، كخيار احتياطي يشكل عنوان التدخل العسكري إذا وجدت أن ظروفه أو ضروارته قد نضجت.
– حسابات الحرب الأميركية على سورية أجريت منذ البدايات في محاولة لتكرار النموذج الليبي، وكان الرهان على الغطاء العربي أن يمهد الطريق وأن يذلل العقبة الروسية ـ الصينية التي لم يكن الحساب الأميركي قد وصل حدّ توقع بلوغها اللجوء إلى الفيتو.
– حسبت الحرب من خارج مجلس الأمن وتداعياتها، خصوصاً النتائج المرتبة على دخول إيران وحزب الله على خط الحرب طالما أن كل الكلام الأميركي المعلن يقول إن أحد أهم نتائج سقوط سورية، تقليم أظافرهما، وقد أسهب بارااك أوباما في ما نشرته الصحافة العبرية عن حواره مع نتنياهو، في شرح أسباب صرف النظر عن خيار الحرب. وجاء إقصاء الثلاثي بانيتا وكلينتون وبتريوس من طاقم الإدارة تعبيراً عن اليقين بلا جدوى ومخاطر الذهاب إلى الحرب.
– إذن، ماذا تريد واشنطن من استحضار الكيماوي وصعود سلم الحرب؟
– بعد الحملة الإعلامية والسياسية والديبلوماسية المكثفة التي قادتها واشنطن ومن خلفها جرت الدول التي شاركت في اجتماع قادة الجيوش في عمان، وتداولت سيناريوات عدة منها منطقة حظر جوي ومنها تقدم بري عبر الأردن وسط ضربات جوية وصاروخية. واستُحضر نموذج كوسوفو، وكان السؤال إذا كان هذا ممكناً فلماذا لم يتمّ قبل سنة وكانت المناخات أفضل عندما كانت تركيا في حالة صعود وكانت قطر في ذروة أمجادها وكانت مصر في قبضة الأخوان المسلمين وكانت المعارضة السورية بعد تفجير الأمن القومي وسقوط كبار الضباط السوريين شهداء والجيش مرتبك للوهلة الأولى؟
– الأسباب التي حالت يومذاك دون الحرب لاتزال قائمة فماذا إذن؟
– بعدما أنفقت واشنطن يومين كاملين لتسويق جديتها بالذهاب إلى الحرب، عادت لتنفق يومين كاملين في الترويج لمصطلح جديد، هو أن ما نتحدث عنه هو ضربة محسوبة ومحدودة عقاباً على استخدام الكيماوي، ولسنا بصدد حرب ولا تغيير النظام.
– الكيماوي كعنوان تستخدمه واشنطن لكنه يحرجها، فالعنوان يستدعي منها انتظار نتائج التحقيق الأممي أولاً، وتنسيق ردّ أممي على من تثبت إدانته في تحقيق من هذا النوع.
– الواضح أن تأخر واشنطن لطرح العمل العسكري ليس عائداً إلى تحسن ظروفه ولا تحسن ظروف حلفائها، ولا هو نتيجة لتغيير معادلات منعته من قبل. بل هو حصراً لتهاوي الخيارات التي كانت واشنطن تثق بفاعليتها وقدرتها على الحفاظ على معادلة توازن عسكري يفرض عقد جنيف لصناعة تسوية سياسية لها فيها مكانة مميزة وتحفظ فوق ماء الوجه المصالح.
– الواضح أن السبب الوحيد، يتمثل في أن الهزيمة العارية قادمة إذا بقي كل شيء يسير كما كان قبل الهبة الأميركية العسكرية، وهي هزيمة لا يمكن تحمّل نتيجتها سواء على الهيبة الأميركية كقوة لا تزال تتصرف باعتبارها القوة الأولى المقررة في العالم، وصولاً إلى مستقبل حلفائها في تركيا والخليج بعدما تكفلت بهم التطورات في مصر وتتهيّأ لإطاحتهم في تونس وغيرها.
– الواضح أن واشنطن صارت فجأة عارية مع تهاوي حلف الحرب الإقليمي وبقاء جماعة القاعدة وحدهم كجيش يقاتل في سورية يضعها أمام خيار واحد هو القبول بتعويم نظام الرئيس بشار الأسد والاعتراف بشرعية نصره واعتماده حليفاً محورياً في الحرب على الإرهاب. وإلا استخدام القاعدة بوساطة بندر بن سلطان لاستنزاف الجيش السوري وحزب الله والبيئتين الشعبيتين المساندتين لهما. وجاءت معارك القصير وريف اللاذقية لتكشف محدودية قدرة القاعدة على ما سمته واشنطن إعادة التوازن، وبدا أنّ الجيش السوري يطلق هجوماً معاكساً يغيّر المعادلة في ريف دمشق وحمص وحماة، وبالتالي يكون باستطاعته مواصلة حربه حتى القول إما جنيف بشروطنا أو لا حاجة لجنيف.
– الهزيمة الأميركية هنا هي هزيمة أمام موسكو وبكين وطهران ودمشق معاً، ولذلك الهزيمة مكلفة فهل الخيار العسكري مكلف مثلها؟
– استبعد الخيار العسكري من قبل لأن كلفته أغلى من هدف غير قابل للتحقيق هو إسقاط النظام وأغلى من إنضاج سورية لتفاوض تتكفل التحالفات الإقليمية الداعمة للمعارضة السورية بتحقيقه. أما اليوم فلم يبق سوى استحضار الخيار العسكري وإلا الهزيمة الكاملة وتداعياتها التي لا تحتمل.
– ما يهمّ واشنطن اليوم صار أبعد من مجرد إعادة التوازن إلى الميدان السوري بحضورها المباشر على خط التدخل. وهو هدف حساس ومهم لها، لكن الأهم استعادة قدرة ردع يبدو لها أنها تآكلت لحدّ لا يبقيها قوة عالمية تدير العالم وتملك سطوة تجعل عدم التجاوب مع طلباتها خسارة لا يمكن احتمالها.
– الخوف من الحرب والقلق من الهزيمة جعلا الضربة المحسوبة فرضية عسكرية أميركية يجري جس النبض لإمكانية سلوكها كطريق لاستعادة قدرة الردع وإعادة التوازن العسكري في سورية ومعها، ووصولاً إلى التفاوض لا المواجهة المفتوحة.
– الواضح أن قدرات سورية وقرارها هما عدم فتح الباب للعبة تسويق الضربة المحسوبة وتحملها لمساعدة واشنطن على حل أزمتها ولا تبدو موسكو وطهران بعيدتين عن هذا القرار، فيما ذهب حزب الله إلى الاستعداد لحرب حقيقية.
– تضيق هوامش واشنطن ويضيق الوقت وعليها إما التراجع عن الخيار العسكري وإما المضي به وهي تعلم انه بوابة الحرب المفتوحة.
– المخرج الوحيد من المأزق أن تستنجد واشنطن بموسكو لإيجاد مخرج العودة عن التصعيد، بداعي الحصول على ضمانات بتحويل قضية الكيماوي إلى المحكمة الجنائية الدولية إذا خلص التحقيق لاتهام الدولة السورية باستعمال الكيماوي.
– موسكو لا تبدو متحمسة وواشنطن تتخبط، وإن ذهبت إلى التورط فهي ستدفع أثماناً عالية وعليها الاكتفاء بالتصعيد وصرف عائداته بما تيسّر في السياسة بتسريع جنيف، أو التشاور مع موسكو لتحويله مؤتمراً للشرق الأوسط والسلام فيه ومن ضمنه ملف سورية وملف إيران والسلام العربي ـ «الإسرائيلي».
– هل تحارب واشنطن؟
– الجنون وحده يقول ذلك. وسيكون جنوناً بلا سوابق مشابهة إلا إذا تحول مدخلاً للتسويات تحت مظلة مجلس الأمن بقرار يعقب الصلية الأولى والردود الموجعة عليها، وتشترك هي إصداره والالتزام بوقف النار على أـساسه.