بين بغداد و«فريسكو» الجميلة
كتب جواد غلوم: يطلق على مدينة سان فرانسيسكو الأميركية التابعة لولاية كاليفورنيا أنها حاضرة رعاة الليبرالية ، ويسمّونها تصغيراً «فريسكو» تحبّباً مثلما ينعتون الأطفال ويدلّعونهم اختصاراً وتودّداً. لكن هل خطر في بال أحد أن هذه المدينة الزاهية ذات الجسر المعلق المشهور، ومن معالمها البارزة جسر البوابة الذهبية Golden Gate Bridge الذي أبهر البشرية ببنائه وتشييده، والآخر جسر الخليج المعلّق بينها وبين أوكلاند Oakland Bay Bridge وقد شيّدا عامي 1936 و1937 ويعتبران من أطول الجسور في العالم وأكثرهما جمالاً وجذباً للسياحة… كان أهلها يسمونها بغداد نظراً إلى رقيّها الباهر وتنوعها الثقافي لساكنيها من مختلف الأجناس والأعراق وتعددها العقائدي، إذ أن كثيراً من الصفات التي تتميز بها «فريسكو» تشبه إلى حدّ بعيد ما كان لبغداد من سمو حضاري ورفعة في العلم والأدب والفن والانسجام المذهل والتآخي بين البغداديين على اختلاف أديانهم وقومياتهم.
أحد أبنائها المعروفين عالمياً، الصحافي الناجح هيربرت كاين 1916- 1997 الذي حاز جائزة البوليتزر بجدارة، وسليل هذه المدينة الزاهية إذ عمل في صحيفة «لوس أنجلس تايمز»، أطلق على مدينته اسم بغداد وأشاعه بين السكّان انبهاراً بمدينة الرشيد ورفعتها ومكانها الساميّ الذي علّم العالم، تيمّناً بأن تكون «فريسكو» بغداد أخرى في العالم الجديد الذي يعيش فيه. كان يرى في بغدادنا منبعاً لتنوع الثقافات وحاضنة لجميع اللغات والاتجاهات الفكرية والأدبية، وكم سحرته الليالي الألف وتمنّى أن تكون الليلة الواحدة بعد الألف من أقاصيص السيدة الخالدة شهرزاد وتهنأ في سان فرانسيسكو نفسها كأنها بغداد الأمس.
بقي هذا الحبّ لبغداد وأهلها ومعالمها التاريخية وحضارتها راسخاً في قلوب سكّان فريسكو وعقولهم الى الآن، فما زالوا يفخرون بأنهم سمّوا مدينتهم باسم عاصمتنا الحبيبة القريبة الى أرواحهم. هؤلاء أحفاد الروائي الكبير جاك لندن والشاعر المتألق روبرت فروست. وظلوا أبناء مخلصين للصحافي البارع هيربرت كاين، وتمثّل هذا الحبّ جليّاً في مبادرة الشاعر والناشر والمكتبيّ الأميركيّ بوسوليل، الإبن البار لهؤلاء النجب الأوائل حينما وقف هو وصحبه الشعراء المعاصرين من «فريسكو» وقفة تضامنية مشرفة للتنديد بالعمل الإجرامي القذر يوم عمل الإرهاب على تفجير شارع المتنبي عام 2007، مطلقاً مشروع «ائتلاف المتنبي» وكان حقاً مشروعاً ثقافياً مهماً عملَ هو وزملاؤه أدباء سان فرانسيسكو على توسيعه ليشمل الكثير من الولايات الأميركية 14 ولاية وأجزاء واسعة من غرب أوروبا وشرقها بينها خمس مدن بريطانية ومدينتين كنديتين، وآثر على جمع العديد من أدباء العالم تحت شعار «شارع المتنبي يبدأ من هنا» إذ ساهم في تلك الفاعلية التضامنية أكثر من 260 أديباً وفناناً من أقطار المعمورة ومعهم مثقفون عراقيون بارزون أذكر منهم السيدة الروائية لطفية الدليمي وأميركيون من «فريسكو» نفسها ومن الولايات الأخرى مثل الصحافي الأميركي المشهور أنتوني شديد الذي عمل مراسلاً صحافيا للصحافة الأميركية هنا في بغداد قبل أن تحين منيته في الأراضي السورية قبل سنتين وبضعة أشهر إثر نوبات ربو حادة حيث تسلل متخفياً على صهوة جواده الى سورية لتغطية أخبار المعارك الدائرة هناك.
بلى، ليست أميركا كلّها تتسم بوجوه كالحة سود متغضنة بالعنف وبطلعات دمويّة مثل سحنات رامسفيلد أو دِكْ تشيني أو كولن باول، ودمامة جورج بوش الأب والابن ومن لفّ لفّهم من ممتهني القوة الخشنة الرعناء وقارعي طبول الحروب من صقور البنتاغون والبيت الأبيض، فهناك من الحمائم البيض ما لا يعدّ ولا يحصى، فهم أصدقاؤنا ونصراؤنا وكثيراً ما وقفوا الى جانب قضايانا. ومثلما أنهك مرض الطاعون أهل سان فرانسيسكو أربع سنوات مطلع القرن العشرين من سنة 1900 حتى 1904 وزلزلت أرضها بفعل زلزالٍ مدمّر وأشعلت الحرائقُ نحو ثلاثة أرباع المدينة وأصبح نصف سكانها بلا مأوى في عام 1906، إلاّ أنها نهضت من جديد بأبهى حُلّة وأندى نضارة وغدت مهوى السياح ومقصد الباحثين عن الإبداع والعمران وبناء الإنسان سليم الطويّة.
ستنهض بغداد يوماً ما وتنفض الرماد العالق بها وتغسل جسدها بماء دجلة غسلاً طهوراً وتنزع ما علق بها من ركام ووعث تراب الحروب وتنزع سربال الكراهية وخرق الطائفية من جلدها الناعم وتلبس حرير المحبة والتآخي والتسامح ويتسع صدرها رحباً واسعاً بعد خناق دام أطول مما كنّا نتوقع.
حتماً ستطلع إلينا ذات صباح وتُنسينا جميع مآسي السنوات العجاف والحروب غير المبررة والدماء التي نزفت من دون وجه حقّ، ولعمري إني أرى هذا الصباح دانياً مثلما يقول مثلُنا السائر : أليس الصبحُ بقريب.