نعم اندحرت «اسرائيل»… فكيف تنتصر فلسطين؟
د. عصام نعمان
لا سبيل إلى المكابرة والمراوغة: «إسرائيل» اندحرت في حربها الثالثة على شعب غزة ومقاومته. ليس الفلسطينيون من نطق بهذا الحكم بل الطرف الأقل، نسبياً، تعصباً وعدوانية في «إسرائيل». صحيفة «هآرتس» المعبّرة عن التيار اليساري الليبرالي قالت إنه «بعد أسابيع من الحرب في غزة فإن النتيجة هي واحد لمصلحة «حماس» في مقابل صفر لـِ «إسرائيل». صحيح أن الفلسطينيين نزفواً دماً أكثر، إلاّ أنهم بعد ما يقرب من الشهرين يمكنهم أن يروا تحسّناً محتملاً في وضعهم، وهو هدف أي عرض للقوة. بحساب بسيط للتكاليف مقابل المكاسب مقارنةً بالموقف الذي كان سائداً في السابع من تموز عند بدء الحرب على غزة يتضح أن «إسرائيل» خسرت أكثر. فكل ما حصلت عليه هو استعادة الوضع السابق بينما كان الثمن الذي دفعته 68 قتيلاً ومئات المصابين واقتلاع الآلاف من منازلهم».
ثمة صورة أشد قتامة عكسها رؤساء البلديات في النقب المحتل. اعتبروا اتفاق وقف النار خضوعاً للفلسطينيين، ودعوا سكان المستعمرات الجنوبية إلى عدم العودة اليها. أما الجمهور فقد بدا قلقاً ومحبطاً. ذلك تبدّى في استطلاع الرأي الذي نظمته القناة التلفزيونية الثانية: 80 في المئة من الإسرائيليين غاضبون على أداء رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. كانت نسبة التأييد له عند اندلاع الحرب تناهز الـ 85 في المئة، انخفضت يوم إعلان الاتفاق إلى 36. الإسرائيليون غير الراضين عن الاتفاق ناهزوا الـ90 في المئة. هل كانت النتائج لتعبّر عن هذا القدّر من الحبوط والهبوط لولا أن الغالبية مقتنعة بأن «إسرائيل» اندحرت في أطول عدوان شنته على غزة ومقاومتها؟
في الجانب الفلسطيني، الفرحة عارمة وشاملة. ثمة إجماع بين الناس على إنهم انتصروا بصمودهم وبأداء المقاومة في وجه العدوان. حققوا ما عجزت عنه جيوش العرب. من يجرؤ على مناقشة هذا الحكم القاطع؟
القياديون الفلسطينيون شاطروا شعبهم فرحته بالنصر. غير أن تقويمهم لمعاني اندحار «إسرائيل» جاء أكثر رصانة وموضوعية. لعل خير من عبّر عن هؤلاء الأمين العام لـِ «حركة الجهاد الإسلامي» رمضان عبد الله شلّح. مع أن «سرايا القدس» كانت في قلب المواجهة الضارية ضد العدو والأكثر نشاطاً في إطلاق الصواريخ الأوفر عدداً والأبعد مدى، فقد جاء تقويم قائدها للعدوان ونتائجه وتداعياته الأكثر عمقاً ورصانة من خلال نقاط خمس:
أولاها، أن «إسرائيل» فرضت علينا الحرب، لكنها لم تفاجئنا، بل أن المقاومة هي التي فاجأت العدو والعالم بقدراتها.
ثانيتها، إن «إسرائيل» حاولت استفراد «حماس» بالقول إن الحرب هي عليها فقط. قوى المقاومة ردت بالنزول إلى الميدان من اللحظة الأولى لتثبيت أنها حرب على الشعب الفلسطيني كله، وأنه ممنوع على العدو أن يستفرد بأي فصيل أو إنسان فلسطيني.
ثالثتها، إن الحرب لم تكن بين جيشين متكافئين. فالعدو يملك أحد أقوى جيوش العالم وجرّب بعض أسلحة الدمار الشامل ضد شعب أعزل ومحاصر. مع ذلك صمد الشعب والمقاومة وردّا العدو على أعقابه.
رابعتها، أن المقاومة تمكّنت من تعديل ميزان القوة بالمثابرة والتصميم والإعداد وقامت بدكّ عمق كيان العدو حتى آخر لحظة.
خامستها، إن قيادة المقاومة تتحدث بكل تواضع عن انتصار الشعب الفلسطيني لأنها تعرف أنها في الميزان العسكري صنعت ما لم يكن العدو يتوقعه.
نعم انتصر نهج المقاومة. ماذا بعد؟
ثمة آراء ومواقف كثيرة. باب الاجتهاد مفتوح على مصراعيه، وما يقال ويؤمل ويُنتظر ينبع بعضه من حقائق ومصالح ومخططات وبعضه الآخر من تداعيات وعواطف وتطلعات. ثمة رأي يقول إن مصر ستكون محور التحركات والترتيبات في المستقبل المنظور. رأي آخر يقول إن ما جرى كان بعلم الولايات المتحدة، وإن دورها سيكون محورياً بالتعاون مع مصر وإسرائيل ودول الخليج. غير أن ثمة رأياً يبدو للبعض سابقاً لأوانه. إنه رأي عضو قيادة «حماس» محمود الزهار المقيم في غزة طوال أيام العدوان.
ماذا يرى الزهار؟
في معرض حديثٍ عن بنود اتفاق التهدئة ومنها أن مسألتي المطار والميناء البحري مؤجلتان للبحث في مفاوضات لاحقة، دعا الزهار إلى المباشرة فوراً في إعادة تأهيل المطار وإنشاء الميناء البحري من دون انتظار إذن من «إسرائيل»، وأنه في حال أقدمت «إسرائيل» على استهداف أعمال التأهيل والإنشاء فإن في مقدور المقاومة الرد بضرب مطاراتها وموانئها. العين بالعين والسن بالسن…
قد يبدو هذا الرأي متسرعاً في مفهومِ من تعوّد على التفكير والتدبير بصيغ تقليدية مفادها أن ما من شعرة تسقط من رأس أحد إلاّ بمشيئة رب العالمين الممثل على الأرض برئيس الأميركيين. لكن الغريب أن هذا الطراز من السياسيين لا يرى، بل لا يريد أن يرى، أن كثيراً من القادة والسياسيين، ولا سيما في «إسرائيل» تحديداً، لا يتردد في اتخاذ موقف أو القيام بعملٍ لا يحظى بموافقة مسبقة من الولايات المتحدة، خصوصاً إذا ما وجد في الموقف أو العمل مصلحة شخصية له أو لبلاده. فنفوذ الولايات المتحدة في مشرق العرب أضعف اليوم مما كان عليه في الماضي القريب وهامش المناورة أمامها محدود الأمر الذي يتيح للاعبين الإقليميين، وبينهم فصائل المقاومة في لبنان وفلسطين، اتخاذ مبادرات وحتى شن حروب محدودة لا تحظى بالضرورة برضى واشنطن.
إلى ذلك، فإن ما يدعو إليه الزهار يتواءم في فهم ما جرى أخيراً في غزة مع تقويم أمين عام «الجهاد الإسلامي» رمضان عبد الله شلّح الذي أعلن صراحةً «أن الحرب لم تنتهِ بعد»، وأن المقاومة «فرضت على «إسرائيل» المفاوضة تحت النار». بعبارة أخرى، لدى المقاومة الفلسطينية من القدرات ما يمكّنها من حماية ما تعتبره حقاً من حقوقها، فلا حاجة لها لأذن من «إسرائيل» لتأهيل أو إنشاء مرافق هي من صلب الحقوق السيادية للسلطة الفلسطينية من حيث هي دولة معترف بها أممياً.
أكثر من ذلك، يجب الانطلاق، بعد اندحار «إسرائيل» في حربها الثالثة على غزة، من حقيقة راسخة هي نجاح المقاومة في تعديل ميزان القوة لمصلحتها، وأن ذلك من شأنه توسيع هامش المناورة والعمل أمامها ما يتطلّب، سياسياً وعملياً، استثمار زخم انتصارها الأخير. كيف؟ باعتبار أن الحرب لم تنتهِ بعد وأنه يقتضي تالياً متابعتها سياسياً بتثوير الضفة الغربية، وتجاوز اتفاق التنسيق الأمني المعقود بين السلطة الفلسطينية و«إسرائيل»، والانضمام إلى جميع المعاهدات الدولية التي تتيح ملاحقة دولة العدو أمام المحكمة الجنائية الدولية وغيرها، ومباشرة مبادرات جريئة كتأهيل المطار وإنشاء ميناء بحري وإدارة معبر رفح بالتفاهم مع مصر وبمعزل عن «إسرائيل» أو أي دولة أخرى.
نعم، «إسرائيل» اندحرت. المطلوب استمرار المقاومة المدنية والميدانية وتفعيلها من أجل أن تنتصر فلسطين، كل فلسطين.
وزير سابق