سميح قاسم: «سأتكلّم متى أشاء وفي أي وقت…»
الياس عشّي
عاش سميح قاسم حياته متعباً:
أتعبته النكبة ولمّا يتجاوز التاسعة من عمره، وعندما اشتدّ عوده، وأحسّ بفجيعة الغربة في وطنه، ارتحل إلى عبقر، ولم يغادرها إلّا وشيطان الشعر يلقّنه القوافي.
قال سميح الشعر… فأخرج اليهود عن صوابهم. سجنوه فلم يرعوّه، فرضوا عليه الإقامة الجبرية فزاد من صراخه، اعتقلوه في منزله فصار المنزل منصّة يعتليها كل المقاومين الشرفاء، طردوه من عمله فانصرف إلى الإبداع شعراً ونثراً، هدّدوه بالتصفية فما ازدادت كلماته إلا شراسة. ويوم اقتحم السرطان جسد سميح قاسم استقبله وهو يتمتم بما قاله المتنبي:
وصرتُ إذا أصابتني سهامٌ
تكسّرتِ النصالُ على النصال
وفي سيرة حياته أنقلها بأمانة نتعرّف إلى والده الضابط كابتن في قوّة حدود شرق الأردن، وكان الضباط يقيمون هناك مع عائلاتهم. وحين كانت العائلة في طريق عودتها إلى فلسطين في القطار، في غمرة الحرب العالمية الثانية ونظام التعتيم، بكى الطفل سميح فذُعر الركّاب، وخافوا من أن تهتدي إليهم الطائرات الألمانية!! فهدّدوا بقتل الطفل، ما اضطرّ الوالد إلى إشهار سلاحه في وجوههم لحماية الطفل. وحين رُويت الحكاية لسميح قال: «حسناً… لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة، سأريهم… سأتكلّم متى أشاء وفي أيّ وقت وبأعلى صوت، لن يقوى أحد على إسكاتي».
ورحل سميح ولم يقوَ أحد على إسكاته، رحل وما زال صوته عالياً مدوّياً، رحل وما زال يمشي مرفوع الهامة منتصب القامة، وما زالت ميادين القتال تستهويه أكثر ألف مرّة من آراء النقّاد ومدارسهم.
لم تكن قد مضت ساعات على موت الشاعر سميح قاسم، حتّى ضاقت المساحات الفضائية بالأساتذة النقاد: واحد يقيم موازنة بين واقعيّة سميح ورمزيّة محمود درويش، وآخر يستحضر ألفاظه متحدّثاً عن خصوصيتها وبساطتها والتصاقها بحياتنا اليومية، وثالث يطرح إشكالية الغناء في القصيدة العربية الحديثة متناسياً أن كلّ الدواوين العربية منذ العصر الجاهلي تنسب إلى الشعر الغنائي، وأخيراً لم يتردد بعض النقاد في الحديث عن التمايز بين الراحلين محمود وسميح في انتظارهما ساعة الصفر: أي الموت. ولم يقنعني ناقد واحد من هؤلاء النقاد، ربّما لأن غزّة كانت منهمكة بالإعداد لإعلان النصر على إيقاع قصائد سميح.
ليترجلِ الأساتذة النقاد عن عروشهم، لقد تعب سميح وهو حيّ بما فيه الكفاية، فلنرحْه بعد موته، إنّ المذاهب النقدية على أهمّيتها تساوي صفراً عندما تصير الكلمة رصاصة، وعندما يتسلّل الشعر إلى ميادين القتال، وعندما يكون الراوي بمنزلة مرسيل خليفة وجوليا بطرس وخالد الهبر وغيرهم ممّن أعطوا للقصيدة المقاومة حضوراً يليق بها.