التوافق والتكاذب أداة الأنظمة الفاشلة…
د. رائد الصري
تراجُع الفكر القومي أدَّى بصورة مباشرة إلى ظهور بذرة الطائفية والمذهبية كظاهرة سياسية تطحن المجتمع وتحوّله مفكّكاً مهزوماً وفاقداً أدنى روحية في العيش والاستمرار. فهل العلمانية هي البديل أم القومية بالوجه الذي عرفناه؟
عرف لبنان هذا الواقع الأليم في ما يمكن تسميته بالديمقراطية التوافقية، حيث يحاول الغرب تعميم هذا النموذج المقزّز على العراق وسورية، بعد أن جرَّبه في لبنان، وقد حقَّق هذا الغرب النجاح في ذلك بإبقاء البلد تحت السيطرة، لأنه يقوم على مرتكزات مدمّرة تمنع المجتمع من التوحّد أو إيجاد قواسم مشتركة.
هذه الديمقراطية الكاذبة التي تبدأ بتأسيس نظام سياسي عماده الأصل الإثني والطائفي والمذهبي لا يمثل بالتأكيد شرائح الشعب كلّها، فتحديد بنية المجتمع تتمّ إما عبر التقسيم الجندري أو الديني أو العرقي وهو التقسيم العمودي، أو عبر التقسيم القائم لفئات المجتمع كافة بشكل أفقي بناء على مستوى المواطن التعليمي أو الدخل المادي أو المركز الاجتماعي. فالفرق كبير بين تراتبية مبنية وقائمة على أسس اقتصادية واجتماعية وما بين تراتبية أخرى قائمة على مجموعة طائفية وإثنية مغلقة تمارس الانعزال والتقوقع والانغلاق.
فالحرية مفقودة في التقسيم العمودي للمجتمعات، والإنسان مفطور عليها، موروث بها غير قادر على الخروج منها وإلا تحوَّل شخصاً منبوذاً سياسياً واجتماعياً.
أخلص لأقول إنّ النظام الرأسمالي الإمبريالي المعولم بتعميمه النموذج الاقتصادي المتوحّش جعل الفساد شاملاً ومعمَّماً على مجالات الحياة الاجتماعية كافة، والتي نقلت نظرة المجتمعات من الأفقية والطبقية إلى النظرة من الزوايا الحادّة والضيقة والمنغلقة المطبوعة بالصبغة الأنانية الفردية الخاصة جداً.
هذه الأنانية الخاصة قوَّت وغذَّت حالة العنف لدى الفرد وفي الجماعة التي تحوَّلت بفعل التراكمات والمظلوميات المجتمعية التي أضاف الدين إليها قيمة زائدة في منسوب العنف وردَّات الفعل والتمرُّد على كلّ ما أُنجز وكلّ ما كان قائماً ومتوارثاً في المفاهيم الطبقية القائمة.
نحن أمام معطى جديد ومختلف في المفاهيم والمعايير السياسية التي تعتمد على التدليس والتكاذب والتضحية بمئات الآلاف من البشر، خدمةً لمشروع سياسي متفلِّت من عقاله، لا سيَّما عندما نسمع ونقرأ ونشاهد السياسيين الذين تقاعدوا عند الغرب واعترافاتهم بالأخطاء والممارسات التي ارتُكبت بحق الدول والشعوب وحالة الندم التي تشوبهم وهم كانوا على علم بكلّ هذه الأضاليل، لكنهم فعلوها، ولم يؤنِّبهم ضميرهم ولا مرة واحدة قبل ارتكاب جرائمهم بحق الإنسانية في العراق وسورية والصومال والبلقان وليبيا وغيرها من خراب ودمار.
نحن هنا، نتناول العمل والفعل السياسي والذي عرفنا خلاله على أنه من أرقى الأعمال الإنسانية، فما الحال بغيرها من الممارسات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي المفتّت والمدمّر والقاتل؟ بعد أن فقد أدنى مستوى المعايير التي تحكم سلوك الفرد والجماعة مع غيرها من التجمّعات البشرية.
لقد بات واضحاً أننا أمام انحطاط فكري وقيمي بالقياسات والمعايير كلها، فنحن أمام دورة تاريخية مفزعة تتعزز معها قناعتنا بأنّ كتابة التاريخ الماضي وأحداثه التي وصلتنا مشكوك فيها وفي أحداثها ووقائعها، فمن قال إنّ المجتمعات البشرية حققت تقدّماً كبيراً في المساواة وحقوق الإنسان وفي الرفاهية الاجتماعية؟ ومن قال إنّ البشرية حققت وخدمت المجتمعات الإنسانية ونقلتها من الطابع القروسطي إلى عالم متقدّم حضاريٍّ متساوٍ وسيد أمام القانون؟
عربياً، أصبح الخارج من دول الغرب مطلوباً ومرغوباً للدور الإنقاذي من انهيار المجتمعات، وليس الدول فقط، وما حصل كان يجب أن يحصل لأنّ حالة الركود التي عاش فيها العرب والسُّبات العميق للقوى الحيَّة فيه كان لا بدَّ أن تتبدّل: إنه مخاض ولادة لم تحصل بعد، ونحن الآن ننتظر على قارعة الطريق والمنعطفات… ننتظر العالم ليحلّ لنا مشكلاتنا.
لا أريد أن أكون متشائماً، لكن الحقيقة صعبة أحياناً وتتطلب جرأة الاعتراف بها، حين أنظر إلى أسلوب وطريقة التعامل مع القضايا الإنسانية وإلى طريقة معالجة المظلومية التي تعاني منها الشعوب العربية بالتحديد، رُبَّما هي أبعد ما تكون عن الأنسنة. فتغيير خريطة جيوسياسية إذا ما تطلّبت إبادة أو تغيير في الديمغرافيات السكانية أو محوها أو تهجيرها حتى، هو أمر مستجاب وسهل طالما بقيت هذه النزعات المتوحّشة مترسّخة ومشخصنة من دون رقيب ولا حسيب…