الكمّاشة الأميركية تطوّق الاستدارة التركية… رسائل البلقان والأكراد!
سومر صالح
مشهد ملتبس في شكله الميداني والسياسي، معقّد في تفاصيله، لا نمطيّ في توقع تفاعلاته المستقبلية، مرتبك في إخراجه الإعلامي، متقلب في نمط التحالفات بين أطرافه، وفي النهاية، إنه مشهد طبيعي في عالم السياسة البراغماتي، إنه المشهد في الشمال السوري، ليس في حلب وصولاً إلى جرابلس فقط، بل وصولاً إلى ما بعد الحدود السورية التركية، لتشمل الأخيرة برمّتها، فبعد أن كانت تركيا أداة في تنفيذ مشروع الولايات المتحدة في تدمير الدولة السورية، في مقابل إحلال مشروع «الإسلام السياسي» بمرجعيته التركية، أضحت اليوم، بفعل تخبّط سياساتها، في قلب صراع جيوبوليتكي بين محورين متصارعين. وأصبحت، بفعل موقعها الجيوسياسي، ميداناً للتنافس والصراع بين هذين المحورين. فحتى وقت لاحق على الأزمة السورية 2011 كانت تركيا بمثابة «حديقة خلفية» لـ«الناتو»، بدليل احتفاظ الولايات المتحدة بأسلحة تكتيكية نووية في قاعدة أنجرليك التركية، وفق ما نشرت مجلة «فورين بوليسي»، بعدما كانت قاعدة متقدّمة في مواجهة الاتحاد السوفياتي السابق. وهنا نستذكر حادثة نشر صواريخ «جوبيتر» في تركيا سنة 1961 ، إبّان الأزمة الكوبية، للتأكيد على مكانة وموقع تركيا الجيوسياسي، في مواجهة الاتحاد السوفياتي ووريثته روسيا. لكن مع احتدام المعارك في سورية وزيادة حدة الاستقطاب الدولي، على خلفية الأزمة السورية، بدأت إرهاصات التمرّد التركي على القرار الأميركي، الذي فضّل عدم الإنخراط المباشر في مواجهة غير محسوبة مع روسيا في سورية. وهنا كان التمرّد التركي بدافع جرّ الحليف الأميركي، وربما «الناتو» إلى الانخراط مباشرة في الأزمة السورية، وتحقيق أحلام أردوغان بمنطقة عازلة، أو فرض منطقة حظر طيران. ونستذكر هنا، حادثة إسقاط الطائرة الروسية في السماء السورية 24/11/2015 للدلالة فقط. هنا بدأت إدارة الرئيس أوباما تصعّد من حدّة اللهجة المنتقدة لـ«تهوّر» أردوغان في المنطقة، واعتباره عنصراً متهوراً في الأوضاع القابلة للاشتعال، لا شريكاً ثابتاً قادراَ على التحكم في أعصابه. ومع تزايد وتيرة العمل السياسي بين روسيا والولايات المتحدة، لإيجاد «تخريجة» ملائمة للصراع على سورية، وإصرار واشنطن على نظام اللامركزية الإدارية في سورية أدرك أردوغان أنه الخاسر الأكبر في هذا الصراع، سواء بخسارة روسيا أو سورية. وعلى ما يبدو، قرّر الأستدارة في العلاقة مع روسيا، وصولاً إلى إستدارة مع سورية، فعزل مهندس الأزمات أحمد داوود أوغلو، واتى ببن علي يلدريم، الذي أكثر، عمداً، من التصريحات الإيجابية حول أزمات المنطقة، لعلها تصرف في سوق السياسة وميدان المساومات لاحقاً. ومع محاولة الإنقلاب الفاشلة والإشارات التركية لضلوع واشنطن بتلك المحاولة، حدث ما يشبه الطلاق «البائن بينونة صغرى» بين الطرفين، وبدأت ملامح التطبيع بين تركيا وروسيا ترتسم بوضوح، لكن بحذر روسيّ مع رغبة جامحة في استمالة تركيا إليها، لتأمين ممرّ البلقان الإجباري نهائياً، بما يضمن وصول روسيا، بحرّية مطلقة، للمياه الدافئة، من دون عراقيل. ومع تزايد كثافة المشاورات الروسية – التركية والتركية الايرانية وتزايد حدّة التصريحات التركية المهدّدة بإعادة تقييم العلاقة مع «الناتو» والاتحاد الأوروبي، بدأ القلق الجدي لدى إدارة واشنطن من تحوّل تركيا إلى المتراس المقابل لها، أو وقوفها على الحياد في صراع واشنطن موسكو، عززه تفعيل ممرّ «شمال جنوب» بين روسيا وأذربيجان وإيران. وكما هو معلوم، فأذربيجان هي حليف مهم لتركيا، والأهمّ أنها ضمن منظمة «توركسوي» أيّ الشعوب الناطقة بـ«التوركية»، وهذا يدلّل على جدّية تركيا في التطبيع الكامل مع روسيا، وعدم مقاومة التمدّد الروسي في فضائها الحيوي، وهو الجمهوريات السوفياتية السابقة. وهي، في الوقت ذاته، فضاء حيوي لتركيا عبر منظمة «التوركسوي»، بما يخلق شراكة «أوراسية تركوسية»، تُخرج منطقة آسيا الوسطى من الحسابات الأميركية، وهي رصاصة الرحمة بالنسبة إلى الزعامة الأميركية على النظام العالمي. وما عزز المخاوف الأميركية تلك، تمدّد المظلة الروسية إلى إيران، عبر تفعيل قاعدة «همدان» في خدمة المقاتلات الإستراتيجية الروسية، بما يضع إيران تحت ظلال «أوراسيا الكبرى» ويبدّد المشروع الأميركي السعودي بضرب الإستقرار الداخلي في إيران. إنطلاقاً من ذلك، تشكّل تركيا حجر زاوية مهما بالنسبة للاستراتيجية الأميركية في «الشرق الأوسط» وفي آسيا الوسطى، ناهيك عن مكانتها في مواجهة تطويق روسيا وفق الحسابات الأميركية، وخسارتها ستصيب تلك الاستراتيجية بمقتل.
وبالمناسبة، فإن رئيس النظام التركي أردوغان، في تعاطيه الجديد في ثنائية العلاقة بين الأميركي والروسي، أمسك العصا من المنتصف، فهو لم يبالغ في الإندفاعة نحو روسيا، وترك سورية موضع «خصومة» على حساب تنازلات في «القرم». وفي المقابل أيضاَ، لم يجازف في حدوث قطيعة مع الولايات المتحدة، وترك دعمه للمجموعات المسلحة في سورية كمتراس أمان في علاقته مع واشنطن وحلفائها. وبالتالي، وضع نظامه ودولته في بازار المصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية، لعله يعّظم من مكاسبه، لكنه في الوقت ذاته، فتح على نفسه ودولته أبواب التنافس والصراع بين محورين، بما يعرّض أمنه الوطني للخطر بعنجهيته المعتادة. وحتى لا تخسر إدارة الرئيس أوباما الوقت في دخول التطبيع الروسي -التركي مرحلة يصعب إيقافها، جاءت رسائل واشنطن الحادة والغاضبة، وربما الحاسمة، لرئيس النظام التركي، فبالتوازي والتزامن أتت الرسائل الأميركية إلى أردوغان في موضعين يصبّان في خانة واحدة، هي ضرب الاستقرار التركي وتعريض الأمن القومي التركي لصدمات عنيفة. الموضع الأول في مدينة الحسكة السورية، التي اندفع فيها بعض الميليشيات الكردية التخريبية لفرض الفدرلة وربما الكونفدرالية، باعتبارها أمراً واقعاً، بحماية أميركية، ما يجعل كرد تركيا على الطريق ذاته، حكماً. ولن يتأخر ذلك بطبيعة الحال. أما الموضع الثاني، فكان في البلقان، حيث زارها جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي، في رسائل تحمل الكثير من التحدي لتركيا أمنياً وسياسياً، مستهلاً الجولة البلقانية بزيارة صربيا، الخصم العنيد للعثمانية الجديدة في البلقان. ووضعت الاستدارة التركية بين فكي الكماشة الأميركية، ووضع أردوغان بين خيارين: إما المضي قدماً في مشروع التطبيع مع روسيا، وهذا يعني استمرار واشنطن في دعم الكرد، ونقل مركز ثقلها إلى صربيا والبلقان، وترك تركيا لمصيرها المجهول، بين كردها في الداخل ونزعات إنفصالية في البلقان تؤجج الصراع لديها. أو القبول بالعودة إلى دائرة النفوذ الأميركية، في مقابل دعم الولايات المتحدة للأتراك بمشروع المنطقة العازلة، أو استنساخ تجربة مشابهة لها، وتجميد المشروع الكردي في الشمال السوري، وهو ما قبل به أردوغان شكلاً، على ما يبدو، وتجلى ذلك بعدوان تركي سافر على منطقة جرابلس السورية .
بدوره، الموقف الروسي كان حذراً في التعاطي مع العدوان العسكري التركي على جرابلس، فروسيا تدرك جيداً أنّ حلّ الأزمة السورية لن يخرج من دائرة التفاهم الثنائي مع واشنطن، وأنّ الخطوة التركية في جرابلس، هي لتسجيل النقاط فقط في حسابات جنيف السورية. وفي أحد وجوهه، هو لحسابات داخلية تخص أردوغان، الذي عمل على إبراز عضلاته العسكرية لتسويق نفسه كبطل قومي وحام للجمهورية التركية، أمام نزعات كردية إنفصالية، لعله يكسب نقاطاً في صراعه مع المعارضة على النظام الرئاسي، وبالتالي لم تبد روسيا ردة فعل عنيفة، واكتفت «بالقلق والتأكيد على ضرورة التنسيق مع الحكومة الشرعية في دمشق»، لأنها لا تريد خسارة تركيا في أسيا الوسطى، أو على ضفة البلقان الجنوبية الشرقية، وتركت الأبواب مفتوحة مع أنقرة لاستكمال التطبيع، مع يقينها التام أن الأزمة السورية خارج الحسابات الثنائية مع تركيا، في استنساخ للنموذج الإيراني في التعامل مع تركيا.
يبقى أن نقول أخيراً، أن تركيا بسياستها المرتبكة تجاه الولايات المتحدة وروسيا في آن، لم تعد حديقة خلفية مؤمن عليها بالنسبة لواشنطن، وهو ما ستسعى واشنطن إلى تجديده مستقبلاً. وأغلب الظن والتحليل، أن أردوغان وحزب العدالة باتا في مرمى سهام الدولة الأميركية.