حان زمن الصهيل

د. فايز رشيد

غادرتنا أيها الفارس قبل موعدك! لعله الحنين إلى الأرض الفلسطينية، كان أقوى من كلّ الاعتبارات لديك. مثل كبرياء وطننا، دخلت شامخاً إليه. كنت تحمل شعار المقاومة لا المساومة، أعلنت شعارك منذ اللحظة الأولى، شق عنان السماء. التقَطته أسراب من طيور السنونو في سمائنا الرحبة، غنّت هي الأخرى لحن المقاومة الخالد، وقد اعتادت، قبل غزوهم، على الحرية. إنهم يحاصرونها أيضاً! إنْ لم يكن بالجنود، فبأنفاسهم الكريهة، وقد سمّمت أجواءنا، لكنها تعرف أنّ السماء التي تطير في فضائها، ستعود فلسطينية كما الحقيقة ذاتها. لهذا شدّت على يديك أيها الفارس. غنّت ألحانها، رتّلت ترانيمها، فدارت الأرض دورتين في الأزل وحوله، لتعلن الحقيقة الفلسطينية الخالدة.

من بعيد، تُسمع خيولٌ تصهل عالياً، وكأنها تعلن امتعاضها من وجود الغزاة. كأنها تشتاق إلى معركة كنسهم. تذكّرت معارك الحرية الخالدة، التي خاضها أسلافها، منذ الإغريق والرومان، مروراً بالمماليك والصليبيين، وصولاً إلى عصر قريب. وكأنها تعلن عدم خشيتها من كلّ أسلحتهم. وكأنها تعلن أنّ الوقت حان لبدء زمن الصهيل. وكأني بك أيها الفارس، ومثلما أتقنت لغة المقاومة الفلسطينية، تدرك سقسقة العصافير وتفاصيل الصهيل! أليس أنت الفارس؟ ربما امتدّ حزننا عليك طويلاً! لكننا ندرك أنك ساهمت في نقل شعبنا من مرحلة الشفقة على لاجئين فقراء، إلى جبروت المقاومة المشروعة. وارتفعت هويتنا الفلسطينية عالياً في السماء. عادت الفلسطينية العربية الكنعانية الأصيلة إلى ألقها وشموخها، تضيء الطريق المظلمة وأنفاق المجهول، في مشوار كفاحي نحو النهاية السعيدة، في كنس هؤلاء الشايلوكيين إلى غير رجعة، بعد تدنيسهم لأرضنا الطاهرة على مدى حقبة زمنية ليست قصيرة.

أبا علي، قلت ما قلت، لأنهم يقتلون الجياد! لعلني أستميح الروائي الاميركي، أهاروس ماكوي، عذرا، في استعارة جزء من عنوان روايته الإبداعية تحت العنوان نفسه. القصة تحوّلت إلى فيلم، ما يزال محفوراً في ذاكرتي حتى اللحظة. إنه جدّ مؤثر في تعبيراته عن تلذذ الأشرار بعذابات الفقراء. والعذر أيضاً، من الروائي القرغيزي المبدع، جنكيز آيتماتوف، في تسمية روايته بعنوان «وداعا يا غوليساري». كان الأحرى بهما وصف الصهاينة وهم يقتلون جيادنا، مع أنهم حوّلوا القتل إلى البشر الفلسطينيين، أطفالاً، شيوخاً، نساء ورجالاً.

أبا علي مصطفى. أيها الصديق، في الكتابة عنك، أضطر، أحيانا، إلى استعمال اللفظ «كان»، كفعل ماضي ناقص في التعبير عن الفقدان والخسارة، رغم أنني وغيري، نشعر أنك تعيش بيننا. كنت الأجمل بين كلّ مراحلنا في التضحية والوفاء، في العطاء وفي العنفوان الوطني الأصيل. كنت الربيع الأكثر اخضراراً بين كلً فصولنا. وكان اسمك واحداً من أسماء التاريخ والأزل الفلسطيني المناضل، فلسطين، الناهضة من تحت الرماد، مثل طائر الفينيق، إلى سحر المقاومة المسلحة الخالدة، وإلى الانتفاضة على التسويات المذلة، وعلى الذين باعوا الوطن بثلاثة دراهم من النحاس.

أبا علي مصطفى، ستظلّ طيفاً وأفقاً سابحين في سماء فلسطيننا الطاهرة، تسقسق مع العصافير لحن المقاومة الخالد، ترتل النشيد الفلسطيني السائر في نسغ الحروف العربية والإنسانية المقاوِمة، تملأه أملاً بربيع آتٍ لا محالة. تروي ظمأ سنديانة ظلّت صامدة عبر مراحل التاريخ، وكأنها أدركت شكل الحنين الأزلي إلى الوطن! تجسّدتَ في جذعٍ زيتونة صامدة، خط عليه أبناء شعبنا حقيقة الارتباط بين الكنعاني تاريخاً، والفلسطيني العربي حاضراً ومستقبلاً، وبين الانتماء للأرض، هذا النابض عشقاً لثراها! ندرك أنّ حبات ثرى فلسطيننا التحمت مع أجساد شهداء شعبنا عبر التاريخ لتكون مصدراً للصلابة الساكنة في أفئدتهم.

أبا علي… اعتقدوا أنهم دمرّوك بصواريخهم. لا يدركون حقيقة عطاء الفلسطيني حيّاً أو شهيداً، فهو يظلّ مزروعاً في الحنايا، يسكن وراء جدران القلوب. يظلّ منبعاً أصيلاً للعطاء الأزلي، يغيب شكلاً ويظلّ مضموناً مثل قوس قزح. ما أن يغيب، حتى يظهر مرةً أخرى، وهكذا دواليك.

اجتمعت فيك صلابة الماس ورقة النسيم في معادلة رائعة. صلابة، حين يستلزم الموقف ذلك، ورقّة، في مواضعها. لا تتطلع إلا إلى السماء، عمادك العزّة والوفاء والكرامة، ومصلحة شعبنا وطريقه، أولاً وأخيراً: المقاومة والكفاح المسلح. في حياتك كنت بسيطاً مثل الماء. في عطائك مثل بيادر القمح، تعطي بلا حدود، لا تكلّ ولا تملّ. كنتَ حانياً مثل أمٍّ رؤوم، يتسع قلبك كلّ الناس، تحزن لدمعة طفل، وتدمع عيناك لكلّ موقف عاطفي وإنساني. يتعلم الآخرون من خصالك، كيف يكون الإنسان إنساناً، والمناضل مناضلاً، والقائد قائداً، والمقاوم مقاوماً. باختصار، كنت يعقوبياً طاهراً. لم تتلوّث سمعتك يوماً. مسألة يشهد بها منتقدوك قبل رفاقك وأصدقائك وأهلك.

في زمن الردّة، يبحث الشعب عن نفرٍ من القادة، لم يساوموا يوماً في حق. لم ينطقوا مرّة بغير الصدق. ولاؤهم الوحيد لفلسطين وتحريرها. وقبلتُهم مصالح شعبهم. فلسطين في أذهانهم لا تحتمل التجزئة ولا القسمة على اثنين. نعم كانت فلسطيننا العربية الخالدة هكذا، وستظلّ أبداً لنا. كنت أيها الصديق فارس أولئك القادة. امتشقتَ فلسطين في فؤادك النابض بتاريخها الكنعاني العربي، وبحاضرها المؤلم حتى النخاع، انتظاراً لفرسان قادمين، يمحون دنس ورجس أولئك المغتصبين لثراها الطاهر، والإيمان المطلق بمستقبلها الحرّ والمشرق، وأريج زهرها الجوري، وصفاء مياه بحرها.

أبا علي، أنت حيّ بيننا وستظلّ. نعم، فقد آن زمن الصهيل، يا قمر الشهداء وفارسهم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى