بعد إيران وكوبا: إنجاز أوباما الثالث يقترب
روزانا رمَّال
لم يكن يوماً عادياً من عمر الولايات المتحدة أولاً والحزب الديمقراطي ثانياً عندما تقدّم ممثلها ذو «البشرة السوداء» على منافسيه داخل الحزب ونجاحه في الوصول إلى رئاسة أميركا ودخول البيت الأبيض من الباب العريض، ضارباً كلّ التاريخ والتعقيدات والذكريات التي حالت بين الشعب الأميركي وتاريخه الدموي في مجالات العنصرية التي لا تزال حاضرة عند البعض في «الأمة» الأميركية.
«الأمة» الأميركية مصطلح اعتاد الرئيس جورج دبليو بوش استخدامه للحديث عن بلاده التي «تبرّعت» لقيادة العالم على طريقتها في عهده وإعادة مسألة التوسّع والاجتياحات العسكرية، فكان القرار بدخول أفغانستان وبعده قرار أكبر بدخول العراق لأسباب تتعلق بإنعاش الاقتصاد الأميركي والاستيلاء على الثروة النفطية وضبط إدارة صفقات النفط بين بيع وشراء وتلزيم لشركات كان يمكلها الرئيس بوش وبعض الأشخاص من فريق عمله مثل دايفيد رامسفيلد وزير الدفاع غداة الاجتياح، وهو الذي يملك شركة بترول نافذة في الولايات المتحدة.
أراد جورج بوش توسيع دائرة الامتداد الأميركي عبر التوسع خارج الأراضي الأميركية مستخدماً ذريعة «ملاحقة الإرهاب» من أجل حماية الأمن القومي لبلاده ولو كلف هذا الأمر اجتياح العراق وحضوراً أميركياً «مباشراً» إليه بعد عملية 11 أيلول/ سبتمبر 2001.
تقديم واشنطن نفسها «كبش فداء» عن العالم في مسألة الاجتياح الأميركي للعراق كلفها الآلاف من القتلى الجنود الأميركيين ومحاسبة لجان محلية حقوقية وإنسانية واستياء اهالي الجنود الذين أكدوا أنّ «أبناءهم ماتوا دون جدوى، فالعالم لم يتخلص من ذيول الإرهاب على ايدينا».
الرئيس الأميركي باراك اوباما أبى ان يوسع دائرة الحضور الأميركي في المنطقة باستخدام الذريعة «الفاشلة» نفسها التي استخدمها بوش، لكنه لم يبتعد عن الهدف ما أكد وجود ارتباط وثيق بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي حول سياسة واشنطن بالشرق الأوسط، بحيث تختلف وسائل المعالجة او «التكتيكات» دون أن تختلف الأهداف الأساسية و«الاستراتيجيات».
العقل الأميركي التوسعي نفسه هو الذي يحيط بالرؤساء الأميركيين الذين عاشوا في مجتمع مبني على «القوة». هذا ما يؤكده أستاذ أميركي في جامعات واشنطن لـ «البناء»، مضيفاً: «هذا المجتمع يقوم على البطش والقوة في معالجة كلّ تفاصيله المحلية والخارجية، يمكنك في أميركا حيازة سلاح للدفاع عن نفسك… يمكنك أيضاً امتلاك دبابة ووضعها تحت شرفة منزلك، القانون يتيح الحصول على رخصة سلاح واستخدامه عند الحاجة». هذه هي أميركا التي تستخدم كلّ شيء وتبيح أيّ محظور من أجل تحقيق أهدافها.
يهمّ أوباما بالرحيل ويعرف تماماً أنه الرئيس الذي دخل التاريخ… لقد كانت فرصة «استثنائية» للرئيس باراك أوباما الذي عانى الأمرّين منذ بداية عهده، بسبب ما عومل به مثلاً من قبل المرشحة الحالية هيلاري كلينتون. وفي هذا الإطار يحكي مصدر سياسي مطلع لـ «البناء» عما عاشه الرئيس أوباما من سوء معاملة وفظاظة بأسلوب حديث كلينتون معه، فهي كانت تعبّر عن موقفها وتتعامل كأنها «الأعلم» حتى لوحظت طريقة تعاطيها «الفوقية» مع أوباما من المقرّبين بالبيت الأبيض وكأنها أخذت وقتاً طويلاً لتتأقلم مع فكرة وصول رئيس أميركي «أسود» إلى البيت الأبيض أو ربما استسهالها مسألة الضغط عليه كرئيس محكوم بذهنية التابع لـ «البيض» تاريخياً.
استطاع أوباما التخلص من كلّ هذا بدهاء شديد. وقد نقش خيوط إرثه بشكل متقن، وقد برز ذلك في محطات ضخمة من عهده.
أولاً: وقّع الرئيس أوباما مع الغرب على التفاهم مع إيران بشأن الملف النووي لأول مرة منذ اعلان الثورة الإيرانية، ايّ منذ اكثر من 30 سنة، في مشهد ترجمه تواصل مباشر لوزيري خارجية أميركا وإيران جون كيري ومحمد جواد ظريف، متخطياً المحرمات المعهودة المتمثلة بالوقوف عند الرأي «الإسرائيلي» في الأمر، وكذلك الرأي الخليجي، محتفظاً لنفسه «بشرف الإنجاز»، معتبراً انّ الوقت سيتكفّل بإقناع الحلفاء بدلاً من ان تضيّع واشنطن المزيد من الوقت في إرضائهم.
ثانياً: وقع أوباما مصالحة تاريخية مع كوبا بعد قطيعة دامت لأكثر من خمسين عاماً بين الدولتين. وكانت مفاجأة سارة للشعبين اللذين لم يتوقعا هذا، لكنه جرى في عهد اوباما فعلاً.
الحدثان المذكوران الوازنان يؤكدان ميل أوباما الى حجز مكانة على جدار تخليد أسماء «رؤساء» مرّوا في عمر الولايات المتحدة وحفروا بصمة كبرى فيها، هذا مع انتقادات كبرى للمسألتين… فهناك من يتحدث عن مصالحة زائفة مع كوبا، وأخرى غير سريعة النتائج مع إيران بخصوص التفاهم، لكن هذا لا يلغي ابداً ميل أوباما للتمسك بعناوين عريضة على مستوى العالم.
سيتمسك أوباما اليوم أكثر من أيّ وقت مضى بمسألة مكافحة الإرهاب مباشرة، وتخليص العالم من فزاعة انتشار الإرهاب. كلّ هذا يبقيه إلى آخر أشهر ولايته التي ستكون ساخنة جداً على «داعش» والتنظيمات الإرهابية. وها هي القيادات الإرهابية تستهدف أميركا في العراق يومياً وتتوجّه واشنطن للتنسيق مع روسيا في مكافحة الإرهاب في الشمال السوري قريباً.
سيتبجّح أوباما أمام العالم بتخليصه من مرتع الإرهاب «إمارة الرقة» من دون إقحام الجيش الأميركي ميدانياً، كما فعل بوش في العراق وأفغانستان التي سيسحب جنوده منها بوعد قديم… سيتباهى في تخليص العراق من إرهاب الموصل وغيرهما في الدولتين، ويكتب بيديه إرثاً بعناوين عريضة لن تنساها أميركا قبل خمسين سنة.