استراتيجية أوباما ضدّ «داعش» والمقاومة معاً…
د. عصام نعمان
أعلن أوباما أنه لم يستكمل بعد استراتيجيته للتدخل في سورية. السبب انهماكه في استكمال ما هو أهم وأشمل: استراتيجية إقليمية لمواجهة «الدولة الإسلامية-داعش» و… قوى المقاومة العربية. رداً على سؤال أجاب: إن «كسر شوكة الدولة الإسلامية على المدى الطويل يتطلّب استراتيجية إقليمية بالتعاون مع السنّة في العراق وسورية». لهذا الغرض طلب من وزير دفاعه تشاك هاغل إعداد مجموعة من الخيارات، كما طلب من وزير خارجيته جون كيري التوجّه إلى الشرق الأوسط للمساعدة في بناء تحالف عريض ضد «داعش».
لا يبدو أوباما بصدد وضع استراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب بل ترميم الاستراتيجية الحاليّة بعد بزوغ تحدٍ إضافي للولايات المتحدة وحلفائها اسمه «داعش» ومباشرته تهديد مصالحها في العراق.
الأهداف النهائية لإستراتيجية أميركا لن تُعرف قبل الفراغ من عملية ترميمها، لكن الكتاب يُقرأ من عنوانه. أوباما ذكر في مؤتمره الصحافي الأخير بعضها وحليفه فرنسوا هولند بعضها الآخر. من مجمل ما ذكره الرئيسان الأميركي والفرنسي أو لمحّا إليه، يمكن استخلاص المعاني والأغراض الآتية:
أولاً، ليس الشركاء في التحالف المنشود ضد الإرهاب دولاً بالضرورة. إنهم طوائف بالدرجة الأولى، ربما لأن معظم الدول الإقليمية متحالف مع هذه الطائفة أو تلك على امتداد مشرق العرب. أوباما قالها بصراحة: «كسر شوكة الدولة الإسلامية يتطلّب استراتيجية إقليمية بالتعاون مع السنّة في العراق وسورية». لم يدعُ إلى التعاون مع الدولة في كلٍّ من العراق وسورية بل مع طائفة بعينها. التعاون مع السنّة في هذين البلدين لا يعني عدم التنسيق مع حكومتيهما أو، في الأقل، مع أجهزة الاستخبارات لديهما. لكن الشريك الأصيل في التحالف المنشود يبقى مكوّناً أو كيان بعينه: أهل السنّة. ذلك يشي بحقيقة لا سبيل إلى نكرانها هي أن الولايات المتحدة تنظر إلى منطقة الشرق الأوسط كمساحة جغرافية وديمغرافية مكوّنة ظاهراً من دول وواقعاً من متحدات أولية primary groups أي طوائف ومذاهب وقبائل واثنيات متمايزة وأحياناً متصارعة، وتتعامل معها على هذا الأساس. لعلها تبنّت أيضاً استراتيجية «إسرائيل» الهادفة إلى إحاطـة نفسها، على مستوى بلاد الشام وبلاد الرافدين، بمجموعـة من جمهوريات الموز، أي دويلات هزيلة وهزلية وغير قادرة تالياً على إقامة تحالف قومي في ما بينها لمواجهة أعدائها. وفي معرض تبريره استبعاد دولة سورية عن التحالف الإقليمي ضد الإرهاب، زعم أوباما أن «الأسد لا يملك القدرة على الدخول إلى مناطق يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية، لذلك ليس علينا أن نختار بين الأسد والدولة الإسلامية». ولا يتأخر أوباما في تحديد خياره: «علينا التحدث مع العشائر السنية». ألا يؤشر هذا الخيار إلى اعتزامه إحياء مخطط «الصحوات العشائرية» الذي كانت طبقته أميركا في العراق عشية اضطرارها إلى الانسحاب منه أواخرَ عام 2011؟
ثانياً، إذ يستبعد أوباما، كما هولند، الأسد كشريك في تحالف مكافحة «داعش» وإخوته في إطار استراتيجية إقليمية لمكافحة الإرهاب، يشدد أيضاً على مواصلة «دعمنا المعارضة المعتدلة لأنه يجب أن نعطي الناس خياراً بديلاً من داعش والأسد». لتبرير هذه السياسة المعتمدة بعد اندلاع اضطرابات «الربيع العربي» المزعوم، يقول أوباما: «لا أرى سيناريو يمكن الأسد أن يكون قادراً فيه على تحقيق السلام والاستقرار في منطقة ذات غالبية سنيّة وهو الذي لم يُظهر حتى الآن أي رغبة في تقاسم السلطة معهم». بصرف النظر عن قدرة الأسد أو عدم قدرته على تحقيق السلام والاستقرار، أو على التوصّل أو عدم التوصل إلى تفاهم مع معارضيه على تقاسـم السلطة، فإنه من الواضح أن مواصلة الولايات المتحدة دعم «المعارضة المعتدلة» يعني، في الواقع، استئناف تسليح فصائلها التي «تحارب» الأسد و«داعش» في آن. فهل يعتقد أوباما فعلاً أن تسليح «المعارضة المعتدلة» سيمكّنها من الانتصار على الأسد وعلى «داعش» ويمنح سورية «خياراً بديـلاً»، كما يتخيّل؟ ألا يعني دعـم المعارضـة المعتدلـة وكـان وصفها بـِ «فانتازيا» على رغم سيطرة «داعش» على معظم مواقعها في شمال سورية وشرقها، صبّاً للزيت على نار الحرب بغية تأجيجها وتدويمها أطول مدة ممكنة بغية استغلالها لتنفيذ مخطط تقسيم سورية إلى مجموعة من جمهوريات الموز؟
ثالثاً، يتضح من تصريحات أوباما الأخيرة أن إدارته تنوي التمسك بسياسة استعداء سورية ونظامها وأن ذلك يعني، في الواقع، استعداء حلفائها المشاركين معها في مواجهة «داعش» وإخوته داخل البلاد وفي لبنان والعراق وفلسطين. فالولايات المتحدة تعتبر حزب الله اللبناني وحركة «حماس» الفلسطينية و«عصائب أهل الحق» العراقية تنظيمات إرهابية وتحاربها بأشكال متعددة قبل دخول، أو إدخال، «داعش» وإخوته على خط الأزمة في سورية والعراق ولبنان وبعده. ألا يعني ذلك أنه من الممكن، بل من الثابت، أن تكون غاية استراتيجية أميركا الجاري ترميمها استهداف قوى المقاومة العربية في لبنان والعراق وفلسطين وربما في ساحات أخرى أيضاً؟
إذ يتضح من مجمل المعطيات والاحتمالات المار ذكرها أن استراتيجية أميركا الجاري ترميمها لن تكون على مستوى إقليمي شامل كونها تستبعد أطرافاً فاعلة منخرطة في الصراع ضد الإرهاب عموماً وضد «داعش» خصوصاً، فإنها تنطوي أيضاً على احتمالات الاحتكاك مع قوى إقليمية متمايزة عن أو متعارضة مع سياسة الولايات المتحدة في مشرق العرب، كما تؤشر إلى إمكانية استخدامها في سياق مخططات أخرى قيد التنفيذ معادية لسورية ولبنان والعراق وفلسطين. أجل، «إسرائيل» لن تتوانى عن استغلال الظروف المستجدة والاحتمالات الماثلة لتعميق الصراعات الطائفية في سورية ولبنان والعراق ولدعم أنشطة الجماعات التقسيمية فيها العاملة لحساب مصالحها الفئوية الضيقة أو لحساب قوى خارجية نافذة. كما لن تتوانى «إسرائيل» وأطراف إقليمية أخرى أيضاً عن استغلال استراتيجية أوباما المنقّحة للجم التعاون القائم حالياً بين بعض فصائل المقاومة الفلسطينية وإيران.
كل هذه الاحتمالات والتحديات قد تحمل أطراف محور الممانعة والمقاومة سورية وإيران وحزب الله وحركة الجهاد الإسلامي على إقامة تحالف موازٍ للتحالف الأميركي-الإقليمي من أجل ضمان تركيز تعاون دول المنطقة في هذه المرحلة على هدف مركزي أول هو محاربة «داعش» وإخوته. ولعل التفاعل بين الاستراتيجية الأميركية المرممة واستراتيجية الممانعة والمقاومة المعدلة يُفضي إلى تلاقٍ على نقاط تفاهمٍ محددة وساحات عمل مشتركة وأهداف متماثلة في الزمن الصعب الذي يعيشه مشرق العرب حاليّاً، فيتعاون المحوران مجتمعَين على احتواء «داعش» في مرحلة أولى ويتولى محور الممانعة والمقاومة منفرداً مهمة استئصاله في مرحلة لاحقة.
وزير سابق