تركيا لا تتمرّد على واشنطن رغم الغضب
د. هدى رزق
لم يكن الهدف الحقيقي للعملية العسكرية التركية التخلص من «داعش»، بل أنّ الهدف الحقيقي هو حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري، وجناحه المسلح «وحدات الحماية الكردية». لم تشعر أنقرة بأية «تهديدات أمنية» من قبل «داعش». وإلا لكانت قامت بالعملية قبل الانقلاب الفاشل في الشهر الماضي، حيث قدرة الجيش التركي واستعداداته كانت أقوى مما هي عليه اليوم.
صرحت أنقرة بأنّ للعملية هدفين أساسيين: الاول توفير الأمن الحدودي. والثاني عدم السماح لحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات الحماية الكردية، بالتمركز والحلول مكان «داعش» في جرابلس. وبما أنه لا سلطة للحكومة السورية في هذا المجال، فهي ستدافع عن السلامة الإقليمية لسورية، وعلى قوات الحماية الكردية الانسحاب إلى شرق نهر الفرات. وكان المسؤولون الاتراك قد طلبوا في المحادثات مع الجانب الاميركي، انسحاب وحدات الحماية الكردية إلى شرق الفرات.
وافق نائب الرئيس الاميركي جو بايدن، وصرّح، بأنّ واشنطن ليست في صدد إقامة كانتون كردي، وهي تطالب الاكراد بالانسحاب إلى شرق الفرات. أعادت أنقرة ضبط سياستها إزاء دمشق، وانتقلت إلى توثيق التعاون مع طهران، والانخراط في تقارب مع روسيا. نشر الجيش التركي 200 جندي من وحدة الميكانيك و150 من القوات الخاصة، تحت غطاء جوي من نيران المدفعية التركية وقوات التحالف. وتمّ نقل عشرة دبابات.
لم يقاوم «داعش» بشكل فعلي، وبدلاً من ذلك، انسحب جنوبا. قتل اثنان من مقاتلي الجيش الحر، من أصل 1500 عنصر دخلوا إلى جرابلس، مع القوات التركية عبر الحدود.
تتكشف سريعاً العملية العسكرية التركية في شمال سورية، التي أطلق عليها تسمية «درع الفرات». تبدو للوهلة الاولى هذه العملية العسكرية كتنفيذ لاتفاق سابق بين واشنطن وأنقرة، في 11 تموز 2016 ، الذي قضى بضرب «داعش» وإخراجها من منطقة جرابلس.
تبحث أنقرة، من خلال هذه المعركة، عن توطيد وضع المعارضة المسلحة، في شمال سورية. وهي تعمل على إشراك جزء كبير من هذه المعارضة في تحديد مستقبل سورية. وتعتقد أنها استطاعت، من خلال الحوار مع روسيا وواشنطن، أخذ فرصة لتوحيدها عسكرياً في هيكل واحد.
تأمل أنقرة إذاً بتوحيد صفوف المعارضة، أولاً في شمال سورية، ثم في حلب وإدلب. وأن يتمّ الاعتراف بالجيش الحرّ كقوة ذات مصداقية على أرض الواقع، وعلى طاولة المفاوضات. إضافة إلى من تعتبرهم «معارضة معتدلة» مثل فيلق الشام وأحرار الشام. هذا على الصعيد السياسي، إما على الصعيد العسكري، فلأنقرة أهداف ثلاثة استراتيجية:
الهدف الاول من هذه العملية، إنشاء قاعدة عسكرية في منطقة جرابلس، بحيث تتمكن من تدريب وتزويد قوات الجيش الحر بالمساعدة، حين تسيطر على التضاريس. كما سيتمّ ربط هذه القاعدة، مع تركيا، بممرّ جوي. تدلّ الأشغال الهندسية الجارية في جرابلس إلى هذا الهدف. لكنها إن أرسلت وحدات كوماندوس، يمكن الاستنتاج بأنها تنوى إقامة قاعدة عسكرية دائمة هناك.
الهدف الثاني لتركيا من هذه العملية، هو الاندفاع إلى خط أعزاز ـ مارع، والسيطرة على 55 ميلا على امتداد الحدود بين جرابلس وكوباني. والهدف الاخر، الضغط من الشرق على كانتون عفرين، حيث موقع حزب الاتحاد الديمقراطي.
إلا أنّ القصف الذي تمارسه تركيا على منطقة عفرين، بدأ يزعج الولايات المتحدة، التي طالبت بوقف إطلاق النار بين الطرفين، ما أثار تركيا، التي اعتبرت أنّ واشنطن تساويها مع حزب الاتحاد الديمقراطي.
الهدف الثالث لأنقرة هو الأكثر خطورة: الاستفادة من النجاح في جرابلس للنهوض بالجنوب الغربي والقبض على الباب. وهذا سينهي حلم وحدات الحماية الكردية في إقامة صلات مع عفرين عبر الباب، والسيطرة على منطقة شمال غرب مدينة حلب. يمكن أن تشكل نيران المدفعية التركية على أهداف وحدات الحماية الكردية في كانتون عفرين، وتفجير الطائرات الحربية التركية، أهدافا لوحدات الحماية الكردية في عفرين، طليعة التحول غربا.
بخلاف منطقة جرابلس، حوّلت «داعش» مدينة الباب إلى حصن ومعقل، حيث يعيش الآلاف من المدنيين. وفيما تستعد قوات سورية الديمقراطية، التي يتكون معظمها من «الأكراد» للمعركة، ترى تركيا أنّ على الجيش الحر أن يتقدم في هذه المعركة ويطرد «داعش» ويضع يده على المنطقة. وهكذا سيتمكن من كسب موقع في الشمال السوري. لا تمانع روسيا وواشنطن، طالما الهدف الرئيسي هو قتال «داعش»، فإن لم يفلح الجيش الحر ستتقدم عندها قوات سورية الديمقراطية للقتال، ووضع اليد على الباب. المعركة بالنسبة للقوى الدولية هي مع «داعش»، بعكس ما تريده تركيا.
والاعتراض الاساسي هو على نيران المدفعية التركية، التي تستهدف وحدة الحماية الكردية في كانتون عفرين. لكن الدور المنوط بقوات الحماية الكردية ضد «داعش» هو ما يقلق تركيا، ويتسبب بواحد من الخلافات الأساسية في العلاقات بين تركيا والولايات المتحدة. فالكرد يشكلون جزءاً هاماً من قوات سورية الديمقراطية، لكن بعدما أبدت القوات الكردية عدم استعدادها لسحب قواتها إلى شرق النهر، على الرغم من تحذير بايدن بإيقاف دعم الولايات المتحدة لها، في حال عدم انسحاب الغالبية العظمى من القوات الكردية، عادت وانسحبت من منبج اعتباراً من 31 آب/ أغسطس. بينما بقيت مجموعة صغيرة من القوى الأمنية لحماية المدينة المحررة.
إعتبر الامر كتطوّر هامّ من أجل تجنّب تصعيد التوتر في المنطقة، من خلال نزاع مسلح بين تركيا والقوات الكردية السورية. وكانت روسيا وإيران أعربتا عن قلقهما، بالإضافة إلى الولايات المتحدة والأعضاء الآخرين في التحالف، من التصعيد والتوتر.
يعتقد المراقبون الأتراك أنّ أنقرة عادت إلى الشرق الأوسط، مع عملية «درع الفرات». لكن لا أحد يعرف ما هي تحالفات الغد. واذا كانت الأفخاخ تنتظر تركيا، نظراً إلى نوايا الحكام الذين كانت لديهم أهداف أخرى، منها إنشاء منطقة عازلة فعلية في مثلث جرابلس ـ اعزاز ـ مارع. ودعوة «وكالة» التنمية للإسكان، من أجل بناء المدن في المنطقة العازلة لإيواء اللاجئين السوريين، وفتح ممر للمجموعات المسلحة العالقة حالياً في حلب.
كل ّهذه الأهداف دونها عقبات كبيرة، لا أحد يعرف ما هي سيناريوات أنقرة المقبلة. والشعور العام أنّ الحكومة التركية لا تتصرف بناء على خطط استراتيجية مدروسة، بل وفقاً لشعورها بالفرصة السانحة ووفق غرائزها.
لكن من إيجابيات هذه العملية، أنها قد تساعد الجيش التركي على إصلاح صورته التي تضرّرت من محاولة انقلاب 15 تموز/ يوليو، بعد أن تمّ استبعاده، بعد إسقاط الطائرة الروسية في الخريف الماضي. وقد تمكنت الجماعات المسلحة المعارضة من الجلوس على طاولة التفاوض. كما تعطي انطباعاً أن أنقرة رضخت لقتال «داعش».