الطيِّب سعد وخُوَّة العار
د. رائد المصري
ثمة طبعة أو دمغة بعلامة وماركة مسجَّلة بما اقترفه ويقترفه مشروع الحريرية السياسية بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وهنا نتحدّث طبعاً عن مشروع سياسي اقتصادي أسَّس وتزاوج مع الطائفيات السياسية والإقطاعات السياسية في لبنان ليبقى خمسين عاماً.
هذا المشروع الذي أكْمل مشواره برئيسه سعد الحريري الذي يُصرّ دائماً على السَّير ضمن الاستقطابات المذهبية الحادّة، حتى لو كانت كلّ خطاباته هو وطاقم حزبه وكلّ من والاه عن العيش المشترك والانفتاح والاعتدال، تغزو العالم العربي قبل أن يصدّقها لبناني، هي مجرد ضوضاء إعلامية.
ضمن المصلحة الوطنية اللبنانية العليا لم يستطع الحريري الإبن الخروج إلى الفضاء الأوسع، في امتلاك رؤية استراتيجية تجعله مُريحاً لقوى الداخل اللبنانية ولمحيطه الإقليمي، وهو بعكس ما كان يتردَّد في أدبيات والده عن الانفتاح العربي والرؤية العربية التوحيدية والمشروع القومي العربي.
فما زال مُصرّاً على النبرة العدائية تجاه سورية وتجاه إيران وتجاه كلِّ محور المقاومة، وهو محور يمتلك اليوم أوراق قوة وذات شعبية وحاضنة جماهيرية كبيرة أقلّه في داخل دول المشرق، ليصير السؤال المشروع: هل الرهان لما تبقى في مشروع الحريرية السياسية يكون بالغَلَبَة المطبوعة مذهبياً، كما تجلَّت زيارته الأخيرة لتركيا؟
أحياناً لا بدَّ من الإشارة إلى تفليسة الحريري السياسية والمالية وارتباطه بشكل عضوي بالمشروع السعودي الوهابي الذي رأينا وتلمّسنا أبشع صوره في الاستثمار التكفيري الداعشي، تفليسة حريرية لم تعد تخدم معها الشعارات التي رُفعت منذ أكثر من عشر سنوات. لكن العجيب هو الإصرار والمراهنة والقفز على حافة الهاوية من الرهان الوهابي على إنزاله وتثبيته في رئاسة الحكومة اللبنانية إلى التفتيش والبحث عن الحماية التي يفترضها مذهبية بزيارته تركيا ولقائه الطيب أردوغان تكون قادرة على الدفع به إلى الأمام وتضعه نداً أمام حزب الله المقاوم.
لكن ما هو غريب بالفعل هو الإشارات الدائمة والتطمينات المستمرة في مواقف حزب الله التي لا ترى إلا المستقبل وتياره والرئيس سعد الحريري القوة الفاعلة والوحيدة على الساحة اللبنانية للقيام بالشراكة في إدارة الحكم، رغم كلّ ما ارتكبه تيار المستقبل ورئيسه بحق المقاومة والحزب، وبرغم كلّ الأفعال التي سهَّلت الانقضاض على المقاومة بدءاً من المحكمة الدولية وصولاً إلى الحصار المالي الأميركي والغربي وانتهاء بشيطنة المقاومة والتضييق على إعلامها، وبما تمثل في تغريم جريدة «الأخبار» اللبنانية.
إنها خوَّة العار… تلك التي فرضتها المحكمة الدولية الخاصة بلبنان على جريدة «الأخبار» وبتواطؤ بعض السياسيين والإعلاميين اللبنانيين على كرامة أبناء هذا الشعب الذي يُقال عنه إنه عنيد. تمويل وسرقة من جيوب الفقراء في لبنان وضعيفي الحال بمئات الملايين من الدولارات سنوياً ليبقى السيف مسلطاً على رقاب العباد، حتى من أراد منهم النطق والتسبيح بحمد المقاومة وفخرها.
هو بحر من الانتهاكات الاستعمارية بأدوات خليجية وهابية حيناً وإخوانية أحياناً أخرى وبأداوت للبنك الدولي وسماسرته من اللبنانيين. هو جهاز متكامل ومنظَّم أسَّسته عولمة التوحُّش الدولية وجعلته حراً طليقاً لا تقيِّده حدود في الاستباحة والقتل والتخريب وكلُّه باسم الحرية والديمقراطية والتعددية والليبرالية.
مجمل القول، إنّ سعد الحريري ربَّما يستطيع أن يكسب ثقة كلّ العالم المُذهَّب والمَذْهبي ليُعيد تثبيت حكمه الذي ضاع، إلا أنه عاجز عن كسب ثقة اللبنانيين ممَّن امتهنتهم محكمته وامتهنت كرامتهم وسلبتهم أموالهم من جيوبهم لتذهب من خلال البنك الدولي في تمويل معاشات القضاة المتقاعدين ورجال المباحث الدوليين من أجل إثبات فحولتهم في التحقيق الجنائي بحق الهنود الحمر من شعب بلادي!
فلا الحكم الأردوغاني الإخواني بحُلَّته الجديدة، ولا الحكم السعودي الوهابي بأبعاده ورؤيته الاقتصادية للــ 2030 قادران أن يعبرا بمشروع الحريرية السياسية من جديد إلى لبنان بهذه الصيغة المذهبية التي لم يجد بعد رئيس المستقبل رؤية وطنية جامعة لطرحها في إجماع لبناني عام، تكون على مستوى التحديات والتضحيات التي قدّمها المقاومون ضدّ «إسرائيل» وضدّ التكفير في سورية.
واهمٌ مَن يظنّ أو يعتقد أن تعود صيغة الحكم في لبنان كما كانت عليه منذ اتفاق الطائف عام 1990، فهذه الخريطة السياسية المتفجرة من حولنا في المنطقة يُعاد تشكيلها وتركيبها وفق النسق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي يحاول تثبيت ركائزه ضمن مفاهيم ليست جاهزة حتى اليوم. وهي بالتأكيد لن تعيد إنتاج الصيغة ذاتها في الحكم وفي المؤسسات الدستورية، لا في لبنان ولا في البلدان المحيطة… فخير الكلام التعقل والتصبّر وعدم القفز في المجهول…