العراق… إلى أين؟

د. عصام نعمان

تسنّى لي قبل أسبوع أن أشارك في ندوة نظّمها مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت حول موضوع «العراق… إلى أين؟».

شارك في الندوة مفكّرون وأساتذة جامعيون من أقطار عربية عدة، ناقشوا خلالها ثلاث أوراق بحثية لكلّ من الدكتور شيرزاد أحمد النجار، والدكتور خالد حمزة المعيني، والدكتور عبد الحسين شعبان.

ركّز الباحثون في مقاربة الموضوع على الظروف والعوامل والقوى التي يمور بها العراق، مع إشارات عابرة إلى الظروف والعوامل والصراعات التي تعصف بالمنطقة العربية وتنعكس بتداعياتها على العراق وغيره من بلاد العرب. رجّحوا أن يكون العراق مفتوحاً على مشاهد ستة بعد انتهاء سيطرة «الدولة الإسلامية – داعش»: بقاء الوضع الراهن على ما هو عليه، تفكّك الدولة وتحوّلها كانتونات او فدراليات، الانزلاق الى الحرب الأهلية، عودة التدخل الأميركي، انضمام بعض مناطق البلاد او إلحاقها بتركيا وإيران، واحتمال توافق القوى الدافعة الى التوحيد على صيغة للحوار والتغيير من أجل تشكيل قوة ضغط لبناء دولة ديمقراطية عصرية على أسس الحرية والمساواة والعدالة والمشاركة والمواطنة بما هي جوهر الهوية الجامعة.

لم أختلف في مداخلتي مع الباحثين على واقع كون العراق مفتوحاً على المشاهد الستة سالفة الذكر، إلاّ أنني اختلفت معهم على مقاربتهم الأحادية للموضوع. ذلك أنها ركّزت على الظروف والعوامل والقوى الداخلية وأغفلت الصراعات المحتدمة في القارة العربية والتدخلات الخارجية وقيامها بتأزيم الأوضاع السياسية والاجتماعية وتحويل الصراعات حروباً أهلية بل حروباً إقليمية تشارك فيها دول كبرى.

أرى أنّ الإجابة عن سؤال «العراق… إلى أين؟» تتطلّب مقاربةً ترتكز على محاور «ثلاثة».

المحور الأول، تشخيص حال الأمة، بما هي اجتماع سياسي وحضاري، في التاريخ ولا سيما على الصعيد الاجتماعي أو المجتمعي. ذلك أنّ الأمة تنطوي على تعددية عميقة، واسعة ومرهقة، وأنّ السلطة أو السلطات التي تعاقبت على حكم شعوبها أخفقت جميعها في إدارة هذا التنوّع العربي الزاخر. ولا غلوّ في القول إنّ وضع الأمة منذ مطلع القرن العشرين أقرب ما يكون الى وضعها عشية غزو الفرنجة أو ما يسمّى خطأ الحروب الصليبية. كانت الأمة والمنطقة آنذاك على درجة من التشرذم والتفتت لم تصادف معها عصابات الفرنجة أيّ مقاومة محسوسة. هكذا مكّن وضعُ الأمة المتشرذم آنذاك الفرنجة من المكوث بيسر في بلادنا نحو 200 سنة. كان يجدر بالباحثين أن يتفحّصوا حال الأمة في الماضي ليعقدوا مقارنة ومشابهة مع وضعها في الحاضر تلمّساً لمخارج من أزمتها.

المحور الثاني، وعي حال الصراع بل الصراعات التي عصفت بالأمة بعد انهيار السلطنة العثمانية وتوزّع ميراثها، في مرحلة أولى، مناطقَ نفوذٍ بين دول أوروبا ثم مع أميركا المنتصرة في الحربين العالميتين الأولى والثانية، ثـم توزّعها في مرحلة ثانية نتيجةَ زرع الكيان الصهيوني في فلسطين واندلاع الصراع العربي الصهيوني الأميركي. مرتكزُ الصراع في هذه المرحلة كان بين أميركا وفي حضنها إسرائيل من جهة وحركة التحرّر العربي بقيادة جمال عبد الناصر من جهة أخرى، وقد انتهت بفك وحدة مصر وسورية 1961 ثم بهزيمة العرب الشنيعة في حرب 1967. في مرحلة ثالثة، اندلعت مقاومة عربية بطليعة فلسطينية ضدّ المحور الصهيوني الأميركي، لكنها أخفقت في تنظيم مواجهة ناجحة، الأمر الذي أدّى لاحقاً إلى قيام الرئيس المصري أنور السادات بتوقيع اتفاقات كامب دايفيد ومعاهدة صلح مع الكيان الصهيوني العام 1978. إخراجُ مصر من حومة الصراع شجّع العدو على اجتياح لبنان العام 1982 وطرد منظمة التحرير الفلسطينية بكلّ فصائلها. في مرحلة رابعة، تجدّد الصراع مع قيام ثورة إيران الإسلامية وإعلان التزامها المبكر محاربة الهيمنة الأميركية على المنطقة وعلى مواجهة الكيان الصهيوني بالتعاون مع قوى المقاومة العربية، ولا سيما بعد احتلال أميركا للعراق العام 2003. في هذه المرحلة التي ما زلنا في معمعتها، انهار النظام العربي الإقليمي المترهّل مطالعَ العام 2011 خلال ما يُسمّى «الربيع العربي»، وهو في الواقع مخاض عميق وشامل استولد مفاعيل وصراعات واسعة ومتمادية، ليس أقلها ما جرى ويجري في تونس وليبيا ومصر وسورية ولبنان والعراق واليمن، بفعل صعود فصائل «الإسلام الجهادي» وانتهاجها أسلوب العنف الأعمى، وقيام تعاون واسع بين تنظيمَي «داعش» و «جبهة النصرة» من جهة وأميركا وتركيا وبعض حكومات الخليج من جهة أخرى، ما أدّى إلى تهديد وحدة كلّ من سورية والعراق واليمن وليبيا وسيطرة فصائل إرهابية متعدّدة على مناطق واسعة فيها. الملاحظ أنّ أيّاً من الباحثين لم يعالج أزمة العراق المرتبطة والمتأثرة بحال التعدّدية العميقة للأمة ونجاح القوى الخارجية في استثمارها لخدمة مطامعها. كما أغفل الباحثون تداعيات وانعكاسات الصراعات الناجمة عن توزّع ميراث السلطنة العثمانية وقيام الكيان الصهيوني ثم قيام ثورة إيران واحتدام الصراع بين أميركا و«إسرائيل» من جهة، وقوى المقاومة العربية المدعومة من إيران من جهة أخرى. كلّ ذلك وسط جهود حثيثة تقوم بها السعودية وبعض دول الخليج لحمل سائر دول العرب على اعتبار إيران الخطر الأول الذي يتهدّدها الأمر الذي أضعف قوى المقاومة العربية الملتزمة قضية تحرير فلسطين، كما شجّع قيادات حاكمة في أنقرة على محاولة استعادة نفوذ تركيا في المشرق العربي باعتماد سياسة «عثمانية» توسعية. باختصار، الباحثون لم يستخلصوا عِبَر الماضي القريب للخروج من حال العراق المتفجّر برؤية إنقاذية متكاملة.

المحور الثالث، اعتماد نهج الحوار والإحاطة العقلانية بالتحديات التي تواجه العراق في المرحلة الراهنة، وصولاً الى توافق قوى الإصلاح والتغيير على برنامج مرحلي متطور لبناء دولة مدنية ديمقراطية عصرية على أساس المفاهيم والمرتكزات الآتية:

أولاً، هوية العراق عربية نابعة من اكتناه وممارسة مشتركات ثقافية ودينية واجتماعية وسياسية في إطار العيش المشترك الساري على مرّ التاريخ.

ثانياً، العدو المشترك الأول الذي يتهدّد العراق شعباً ودولة ووطناً كما سائر بلاد العرب هو الكيان الصهيوني وحاضنته أميركا العاملان على تفكيك دول المشرق العربي الى جمهوريات موز تقوم على أساس اثني أو مذهبي أو قبلي.

ثالثاً، بناء حركة مقاومة وطنية ديمقراطية بالتكامل مع مثيلاتها في الأقطار العربية الأخرى، ولا سيما سورية ولبنان وفلسطين والأردن، التي تواجه جميعاً أعداء مشتركين في معمعة الصراع العربي – الصهيوني الأميركي.

رابعاً، ترسيخ سلام وتعاون استراتيجيين مع إيران في مواجهة الخطر الصهيوني الأميركي، وفي دعم قوى المقاومة العربية الناشطة ضدّ الكيان الصهيوني.

خامساً، إعادة بناء الجيش العراقي وعقيدته القتالية وفق الأسس والمرتكزات السالفة الذكر.

سادساً، تعليق العمل بالدستور الذي تمّ إعداده في ظلّ الاحتلال الأميركي، وعقد مؤتمر وطني تأسيسي لاعتماد دستور جديد وإقراره في استفتاء شعبي.

سابعاً، إجراء انتخابات نيابية بإشراف الأمم المتحدة، تنبثق منها حكومة وطنية جامعة لتنفيذ أحكام الدستور الجديد والقيام بالإصلاحات اللازمة بعد إلغاء/ أو تعديل القوانين والأنظمة والأوامر الصادرة في ظلّ الاحتلال الأميركي.

ثامناً، احتفاظ الأكراد العراقيين في المحافظات التي يتألف منها إقليم كردستان بحكم ذاتي، والعمل على اعتماد اللامركزية الإدارية في سائر مناطق البلاد.

المطلوب للعراق كثير، والمطلوب منه أكثر. عسى أن يرتفع العراقيون الى مستوى مواجهة ما هو مطلوب لهم ومنهم.

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى