قراءة في دلالات مقولة «جماعة الميري كريسماس»!
نصار إبراهيم
عادة لا أميل إلى الخوض في نقاشات وسجالات مجرد الدخول فيها يعني مساساً بكرامتي الوطنية والقومية والإنسانية، فلا يُغريني مثلاً الخوض في النقاشات التي تؤكد، بمناسبة وبدون مناسبة، أنّ الشعب الفلسطيني شعب وطني… أو عربي… وبالقدر ذاته لا يُغريني الخوض في نقاش يؤكد أنّ جزءاً من الشعب الفلسطيني هو فعلاً فلسطيني ووطني، كما لا يُغريني الخوض في نقاشات تؤكد على «الأخوة بين المسلمين والمسيحيين». فهي عبارة بقدر ما تبدو لطيفة وجميلة… إلا أنها تستفزّ وعيي وركائز انتمائي الوطني والقومي والإنساني… والشيء ذاته هو الشعار الذي يؤكد على «التعايش المسيحي الإسلامي»… ما شاء الله!
كلّ هذا وما يشبهه أصبح وبصراحة يثير قرفي واستفزازي النفسي والسياسي والثقافي.
ذلك لأنّ هذا النمط من النقاشات والمقاربات تعبّر في عمقها عن اهتزاز القناعة أو الشكّ في انتماء جزء عضوي من الشعب الفلسطيني لذاته، هذا من جانب… كما أنها تعكس هبوطاً في الوعي والممارسة والخطاب السياسي والاجتماعي من مستوى الانتماء للشعب والأمة والهوية الوطنية والقومية إلى حالة مختلة محكومة بالانتماء الديني أو الطائفي، من جانب آخر.
بصراحة، كلّ هذا اللغو المشغول بالتأكيد على هوية المسيحيين الفلسطينيين العرب، وعلى انتمائهم ووفائهم ووطنيتهم وعروبتهم يحمل إهانة صريحة لكلّ مواطن في هذا الشعب وهذه الأمة. فإذا كان المعتقد الديني هو السبب والدافع من وراء هذا التأكيد… وإذا كان ذلك بات شرطاً مطلوباً ومبرّراً وضرورياً للتأكيد على وطنية وهوية المسيحيين الفلسطينيين والعرب، فهذا يعني حكماً أنه مطلوب أيضاً للتأكيد على هوية وانتماء المسلمين الفلسطينيين العرب أو غيرهم من الطوائف والبنى الاجتماعية العضوية، بمعنى لماذا دائماً هناك علامة سؤال على انتماء وهوية ووطنية وقومية المسيحي الفلسطيني العربي ولا يوجد السؤال ذاته على المسلم؟
هذا التقديم الكثيف ضروري بهدف التوضيح الحاسم على أنّ الدافع والمحرك لمقالتي هذه ليس الدفاع عن المسيحيين الفلسطينيين… فمن أنا لأعطي هؤلاء المواطنين الفلسطينيين شهادة في الانتماء والوطنية والعروبة!؟
ما دفعني لكتابة هذا المقال هو ما أثاره تعبير «جماعة الميري كريسماس»، الذي ورد على لسان السيد جبريل الرجوب وزير الشباب والرياضة الفلسطيني، من نقاشات وردود أفعال…
وهنا لن أدخل في سجال حول قصدية السيد الرجوب وهل كانت إيجابية أو سلبية… فهذه مسألة بمقدوره أن يردّ عليها ويوضحها.
المشكلة في هذا التعبير أنه صدر عن شخصية فلسطينية رسمية، والثانية أنه جاء كعملية وصف أو مجاز أو كناية عن المسيحيين الفلسطينيين… ربّما أنّ السيد الرجوب أراد أن يقدّم الوصف بطريقة خفيفة الظلّ… ربما.
إلا أنه على ما يبدو لم ينتبه إلى أنّ المفهوم واللغة لهما سياق… فالتعابير تأتي وهي تحمل شحنات مضمرة تشكل لها مجالاً يشبه المجال المغناطيسي…
هذا بالضبط ما جعل كلّ من سمع التعبير يشعر بالاستياء والغضب… الأمر الذي دفع شخصية فلسطينية عربية من وزن رئيس أساقفة سبسطية للروم الارثوذكس الأب المطران عطا الله حنا ليقول في تصريح له: «إننا نُعرب عن استنكارنا ورفضنا وتنديدنا بهذه التصريحات التي لا تسيء فقط للمسيحيين الفلسطينيين بل تسيء لكلّ الشعب الفلسطيني… ونودّ أن نقول لهذا السياسي الفلسطيني بأنّ المسيحيين الفلسطينيين ليسوا جماعة ميري كريسمس بل هم أبناء الكنيسة المسيحية الأولى التي انطلقت رسالتها من فلسطين، ونحن نفتخر بانتمائنا للمسيحية المشرقية الأصيلة التي بزغ نورها في هذه الأرض المقدسة… إنهم ليسوا بضاعة مستوردة من الغرب ولم يؤتَ بهم من هنا أو من هناك».
المشكلة في هذا التعبير تكمن في وصف جزء طبيعي من الشعب الفلسطيني باستخدام تعبير «جماعة» مسنودة بتعبير أخذ دور الصفة وهو «ميري كريسماس». وكأنّ هذه «الجماعة» لها خصائص وسمات مختلفة بحكم الانتماء الديني عن غيرها.
لكي أوضح هذه الفكرة، لنتصوّر مثلاً تصنيف الشعب الفلسطيني بتكويناته الطبيعية هكذا: جماعة الله أكبر المقصود المسلمين ، جماعة الخلوة الدروز ، جماعة «الفلفل» غزة ، جماعة العنب الخليل ، جماعة الكنافة نابلس … جماعة وكالة الغوث اللاجئين … وغير ذلك.
في هذا الإطار المحدّد نلاحظ أنّ اللغة تأتي في سياقاتها ومعها شحناتها ودلالاتها… لهذا فإنّ تعبير «جماعة الميري كريسماس» جاء سلبياً تماماً في شحنته ودلالاته… ذلك لأنه يحيل ويربط جزءاً عضوياً من الشعب الفلسطيني بتعبير مغترب… وكأنّ الركيزة أو الجوهر الحاسم الذي يحدّد ويقرّر هوية هذا الجزء من الشعب الفلسطيني هو فقط مسيحيته… والأدهى أن يُحال حتى هذا الاعتقاد الديني التاريخي والطبيعي إلى مرجعية غربية «ميري كريسماس» وليس حتى التعبير العربي: عيد ميلاد مجيد!
ذلك لأنّ تعبير «جماعة الميري كريسماس» أثار فوراً في الوعي المخيال تصوّرات وارتكاسات تشي بجملة من الدلالات السلبية المضمَرة: جماعة منغلقة على ذاتها، جماعة يحدّدها فقط انتماؤها الديني، جماعة مغتربة عن محيطها الاجتماعي، ذلك لأنها حتى في لغتها وثقافتها لا تنتمي للواقع الفسطيني… فأل التعريف لها هو تهنئة بلغة غريبة «ميري كريسماس».
خلاصة القول… على السياسيين الفلسطينيين والمثقفين والإعلاميين وغيرهم الانتباه جيداً… فاللغة والخطاب والكلمات التي قد تبدو عادية قد تحمل في سياقاتها دلالات ورسائل غاية في الخطورة.
أردتُ أن أوضح هذه الإشكالية كي أحافظ على النقاش وردود الفعل بعيداً عن السياقات الانفعالية والضيقة… وأيضاً لكي ينتبه ويحاذر مَن سيناقش في هذا الموضوع خطر الذهاب اللاشعوري نحو التمترس الدفاعي الغريزي السلبي… بما يؤكد المشكلة…
مرة أخرى، أنا لا أدافع عن المسيحيين الفلسطينيين… بل أدافع عن وعيي وهويتي وانتمائي ووطنيتي وعروبتي وشعبي بكلّ مكوّناته… هذا كلّ ما في الأمر.