الواقع العربي بين التطلعات القومية والمشروع الإمبراطوري الأميركي
ساسين عساف
بعد الحادي عشر من أيلول دخل العالم مرحلة جديدة من تاريخه. انّها مرحلة الهيمنة الأميركية عليه، مرحلة الهيمنة على المناطق التي لأميركا فيها مصلحة استراتيجية.
بعد هذا التاريخ أصبح نشر القوّة الأمبراطورية بديلاً من الديبلوماسية ومن القانون الدولي وقواعد العلاقات الدولية. والهدف هو الهيمنة الشاملة على العالم.
«الاستراتيجية الامبريالية العظمى»
هذا الهدف أعلنته الولايات المتّحدة في أيلول 2002 عبر وثيقة أصدرها الرئيس بوش الإبن بعنوان «استراتيجية جديدة للأمن القومي»، إذ قرّرت فيها الهيمنة الدائمة على العالم باستخدام القوّة للقضاء على مناوئيها الدوليين وبسط سيادتها المطلقة وجعل العالم تحت حكمها الأمبراطوري.
هذه الاستراتيجية يسمّيها نعوم تشومسكي المفكّر والأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «الاستراتيجية الامبريالية العظمى».
واضعو هذه الاستراتيجية هم «المحافظون الجدد» وهم بمعظمهم من اليهود الأميركيين المنتمين الى حركة الثلاثينيات والأربعينيات التروتسكية، التي تحوّلت الى ليبرالية معادية للشيوعية بين الخمسينيات والسبعينيات، ثمّ أصبحت أخيراً شكلاً يمينياً ذا نزعة أمبراطورية عسكرية لا سابق لها في تاريخ الثقافة السياسية الأميركية. ميخائيل ليند من مؤسّسة «نيو أميركا فوندايشن» ومدير مشروعها: الاستراتيجية الأميركية .
«… انّ المخطّط الأميركي يقترب من المشروع النازي القائم أيضاً على مبدأ التفوّق الاتني الآري الاقصائي.. وليست هناك، تالياً، أيّة علاقة بين هذا المخطّط الأميركي وما يدّعيه أساتذة جامعة أميركيون ليبراليون يصفون الهيمنة الأميركية بأنّها «غير مؤلمة» الكاتب والمفكّر المصري سمير أمين
مشروع «القرن الأميركي الجديد» الذي أعدّه تشيني ورامسفيلد وولفوفيتز وأعلنوا مبادئه في 3 حزيران عام 1977 يؤكّد أنّ التحدّي الرئيس الذي تقابله الولايات المتّحدة هو «صياغة قرن جديد يوافق مبادئ أميركا ومصالحها».. و«أنّ هذا التحدّي يتطلّب آلة عسكرية قويّة ومستعدّة لمواجهة التحديات الحالية والمستقبلية وسياسة خارجية تدعم بقوّة وجرأة المبادئ الأميركية وقيادة وطنية تقبل مسؤوليات الولايات المتّحدة العالمية. «على أنّ الهدف الاستراتيجي هو «الحفاظ على الهيمنة الأميركية على العالم».
وثمّة وثيقة أخرى متعلّقة بالمشروع نفسه تدعو الولايات المتّحدة الى «عدم تشجيع الدول الصناعية المتقدّمة على تحدّي قيادتنا أو الطموح الى أن يكون لها دور اقليمي أو عالمي أكبر».
وهناك وثيقة خاصة بالبنتاغون تحمل عنوان «رؤية للعام 2020» تسوّغ السعي الى امتلاك «هيمنة مطلقة» على الأمن في جميع أرجاء كوكب الأرض».
منذ روزفلت ومن بعده ويلسون والولايات المتّحدة تعتمد سياسة الدفاع عن تفوّقها الاقتصادي والسياسي والعسكري بالقوّة وذلك تحت عنوان «تعميم نموذج الديمقراطية الليبرالية». أمّا العنوان الحقيقي فهو تأمين «المصلحة القومية».
ما كتبته كوندوليسا رايس، مستشارة الأمن القومي ولاحقاً وزيرة الخارجية، في مجلّة «فورين أفيرز» في شباط من العام 2000 يثبّت العنوان نفسه في مرحلة ما بعد الحرب الباردة وهاجسها هو كيفيّة التأثير على شكل العالم المستقبلي لكون الولايات المتّحدة تشكّل النموذج الأوّلي «للاقتصاد الجديد» وتتمتّع «بموقع استثنائي» على «الجهة الصحيحة من التاريخ» يخوّلها دفع العالم في اتّجاه الديمقراطية والحرية الفردية والانفتاح السياسي وتعميم القيم الأميركية التي هي قيم شاملة وعالمية و «التعامل في شكل حاسم مع خطر الأنظمة المارقة» التي تصدّر الإرهاب وتطوّر أسلحة الدمار الشامل ذلك أنّ قوّة أميركا العسكرية هي الضامن الوحيد للسلام العالمي وحماية المصلحة القومية. لذلك ترى كوندوليسا رايس أنّه يجب أن تكون القوات المسلّحة الأميركية قادرة في شكل حاسم على مواجهة ظهور أيّ قوّة عسكرية معادية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ والشرق الأوسط والخليج وأوروبا. انّ للولايات المتّحدة مصلحة استراتيجية طاغية في هذه المناطق. واللجوء الحاسم الى القوّة العسكرية وحده الكفيل بحماية هذه المصلحة.
أهداف المشروع وآليات تنفيذه
وليام كريستول، أحد منظّري هذا المشروع، قال في مقابلة له مع صحيفة هآرتز: «يجب أن نقوم بتشكيل العالم قبل أن يقوم العالم نفسه بتشكيلنا، أي بتشكيل الولايات المتّحدة».
تشكيل العالم يعني:
– فبركة الأمم من جديد، أيّ تدمير مبدأ سيادة الدول وذلك بتفكيك النظام الدولي وإعادة تركيبه، بتعطيل عمل الأمم المتّحدة واختزال أعضاء مجلس الأمن الى واحد. ريتشارد بيرل، أحد أبرز مستشاري بوش الإبن، كتب مقالاً في الغارديان اللندنية حول «موت الأمم المتّحدة» جاء فيه:
«… انّ فشل مجلس الأمن المزمن في تنفيذ قراراته لا ريب فيه… انّه وبكلّ بساطة ليس على مستوى مهمّته… ولم يبق لنا الاّ «تحالف الراغبين» فهم أفضل أمل للنظام العالمي الجديد و هم البديل الوحيد للفوضى الناجمة عن الفشل المخزي للأمم المتّحدة… انّ هذا القرن الجديد يحفز الآمال من أجل بناء نظام عالمي جديد بطرق جديدة».
هذا الكلام يختصر جوهر المشروع وأهدافه وآليات تنفيذه وفي أوّلها «ضرب المؤسسات الدولية» وانتهاك القانون الدولي واتلاف المعاهدات والمواثيق الدولية.
يذكر تشومسكي أنّ جورج بوش وطوني بلير عشيّة غزو العراق وجّها إنذاراً لمجلس الأمن جاء فيه: «.. عليك أن تذعن والاّ فانّنا سنقوم بعمليّة الغزو من دون أن تبصم موافقتك التافهة». هذا الإنذار يتضمّن أقصى درجات النزوع الى التفرّد والهيمنة في العلاقات الدولية..
– إخضاع العالم لمنهج عالمية الإنتاج والاستهلاك، أيّ تنظيم الاقتصاد العالمي بما يتلاءم ومصالح الاقتصاد الأميركي وذلك بتحويل الثروات العالمية من الفقراء الى الأغنياء استغلال الجنوب لحساب الشمال وبالهيمنة على النفط ومصادر الطاقة.
وولفوفيتز، نائب وزير دفاع، يحدّد الأهداف الاستراتيجية بالقول:
«… ينبغي منع قوّة معادية من السيطرة على مناطق يمكن لثرواتها أن تجعل من هذه القوّة قوّة عظمى.. كما ينبغي تثبيط عزيمة الدول الصناعية المتقدّمة إزاء ايّة محاولة لتحدّي زعامتنا أو لقلب النظام السياسي والاقتصادي القائم، كما علينا التنبّه والتوقّع لأيّ بروز محتمل لمنافس لنا على مستوى العالم..» هذا الكلام يختصر استراتيجية التفوّق.
ناعوم تشومسكي في كتابه «قراصنة وأباطرة» يذكر أنّ الحكومات الأميركية المتعاقبة اتّبعت مناهج متكاملة للتحكّم بالثروة العالمية، منها: زيادة الانتاج التكنولوجي وممارسة الارهاب الدولي هي التي أوجدت القاعدة وهي التي أوجدت داعش وسائر فروعهما . وهي مناهج تنبع من رؤية أميركا لنهب العالم وإفلاسه وتدميره كشروط واجبة لقيام أمبراطورية الهيمنة والسيطرة.
صامويل هنتنغتون، بدوره، يحدّد أداتي الإكراه الرئيسيّتين اللتين تحاول الولايات المتّحدة استخدامهما لبلوغ أهدافها «بالعقوبات الاقتصادية والتدخّل العسكري».. فالقوّة العسكرية هي من أهمّ أدوات تنفيذ السياسة الخارجية الأميركية.
أحد مستشاري البيت الأبيض رفع مذكّرة الى الرئيس بوش بعنوان «الصدمة والرعب» يتناول فيها أسلوب ممارسة القوّة الأميركية، يقول:
«.. انّ الولايات المتّحدة عليها أن تستعمل أقوى شحنة من القوّة المكثّفة والمركّزة والكاسحة بحيث تنهار أعصاب أيّ عدو يقف أمامها وتخور عزيمته قبل أن تنقضّ عليه الصواعق من أوّل ثانية تنشب فيها الحرب الى آخر ثانية ويتمّ تقطيع أوصاله وتكسير عظمه وتمزيق لحمه دون إعطائه فرصة يستوعب فيها ما يجري له.. « محمّد حسنين هيكل: الأمبراطورية الأميركية
– فرض النموذج الثقافي الأميركي ورؤيته الكونية على شعوب العالم أي انهاء الايديولوجيات خصوصاً القومية منها والدينية وذلك باسم الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وادّعاء تحمّل مسؤوليات حضارية فشعوب العالم مقسّمة الى «جماعات إرهابية متخلّفة» وأخرى «سلمية ومتحضّرة» وحكّام العالم مقسومون الى «حكّام طغاة» وحكّام عدل وحريات وديمقراطية ودول العالم مقسومة الى «دول مارقة ومعادية محور الشرّ ودول متعاونة وحليفة محور الخير .
هذا التقسيم لشعوب العالم وحكّامه ودوله يوحي بالمضمون الرسالي/ الخلاصي لمسؤولية الولايات المتّحدة في نشر الديمقراطية وتوسيع التنمية وحماية الحريات ومحاربة الشرّ! في 17 أيلول 2002 ألقى بوش خطاباً في البيت الأبيض قال فيه: «… انّ الولايات المتّحدة هي هبة إلهية لهذا العالم».
– فرض الأمن الأميركي على العالم عبر الانتشار العسكري والأمني مليون جندي في القارات الأربع وعبر شنّ «الحروب الاستباقية» ونزع سلاح الدمار الشامل ومحاربة الإرهاب ولعب دور «الشرطي العالمي».
انّ «الحرب الوقائية» و «الضربة الاستباقية المروّعة» واحتكار أسلحة الدمار الشامل هي من وسائل التسيّد التامّ والأحادي على العالم عبر التفوّق العسكري المطلق.
مشروع الشرق الأوسط الكبير…
«… من أجل الإنسانية كلّها يجب أن تتغيّر الأمور في الشرق الأوسط..» من خطاب الرئيس بوش في 25 حزيران 2002
وبعد احتلال العراق أعلن كولن باول أنّ الولايات المتّحدة ستعيد تشكيل الشرق الأوسط بما يتّفق مع مصالحها.
ثمّ أعلن بوش أنّ منطقة تجارة حرّة ستقوم بين الولايات المتّحدة ودول الشرق الأوسط. ثمّة هدفان لهذا المشروع:
– الهدف الأوّل هو إحكام السيطرة الاستعمارية على مصادر الطاقة في الخليج والعراق وإيران وبحر قزوين وآسيا الوسطى وتوسيع رقعة الاحتلال بعد أفغانستان والعراق..
هذا الهدف يسوّغ حقّ التدخّل ويجعل المنطقة الممتدّة من أندونيسيا في قلب آسيا الى المغرب وموريتانيا على شواطئ الأطلسي تحت حكم «الوالي العالمي» أو «الأمبراطور الأعلى» الذي استخدم القوّة العسكرية غير مرّة فيها معتدياً دفاعاً عمّا يدّعيه «مصالحه الحيوية».. فالقوّات المسلّحة الأميركية قاتلت في هذه المنطقة في العقود الثلاثة الأخيرة أكثر منها في أيّ مكان آخر من العالم، فالمنطقة تحتوي على أكثر من سبعين في المئة من نفط العالم. والعالم سيصبح أكثر اعتماداً على نفطها وغازها في هذا القرن منه في القرن الماضي.
– الهدف الثاني هو ضمان أمن الكيان الصهيوني وتمكينه من الدخول الى قلب المنطقة، فالفكرة ولدت من دراسة وضعها ريتشارد بيرل ودوغلاس فايث بعنوان: «استراتيجية جديدة تضمن أمن اسرائيل». وهي دراسة تدعو الى التخلّي عن اتّفاق أوسلو.
أمّا الكلام على تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح وبناء مجتمع معرفي وتوسيع الفرص الاقتصادية فكلام كاذب يخفي النوايا المضمرة العابثة بالجغرافيا والتاريخ والهويات والناهبة للثروات.
مواقف أنظمة وحكومات عربية
انّ مواقف أنظمة وحكومات عربية من المشروع الأمبراطوري الأميركي في ضوء «وعيها» لضرورات قيام الوحدة العربية قليلة جدّاً، لا بل محصورة بواحدة أو اثنتين، هي الدول العربية التي تتحمّل مسؤولياتها الوطنية والقومية برفضها المشروع الأمبراطوري الأميركي لما يشكّله من خطورة على مشروع الوحدة العربية بدءاً بالوحدة الإقتصادية.
وكثيرة جدّاً هي الدول العربية التي وضعت نفسها بتصرّف هذا المشروع فأقام قواعده العسكرية العدوانية فوق أراضيها، واستخدم أجواءها وممرّاتها البحرية والبرّية للعدوان على العراق واحتلاله. لقد استولى على حكّام هذه الدول منطق الحماية واسترضاء الإدارة الأميركية بعيداً ممّا تفرضه عليهم من مسؤوليات وطنية وقوميّة قضية الوحدة. والحجّة في ذلك هي عدم القدرة على ردّ الإملاء الأميركي فلا خيار، تالياً، سوى التعاون معه والانصياع لأوامره!
هذه الحجّة تختصر فجيعة الراهن العربي الرّسمي.
هذه الدول، المعروفة تاريخياً بدول «الاعتدال العربي» تحسب نفسها في شراكة سياسية/ أمنية واقتصادية مع الولايات المتّحدة وشريكة أساسية لها في حربها على الإرهاب.
هذا وعلاقة بعض هذه الدول بالولايات المتّحدة هي اليوم في محنة واضحة، فثمّة حملات أميركية رسمية وغير رسمية تستهدف المملكة العربية السعودية بآدابها وعاداتها وثقافاتها ودينها ومقدّساتها ونمط عيشها يقابلها امتعاض سعودي واضح من تحدّي سيادتها.
هذه العلاقة قد تتطوّر من محنة الى أزمة. فالصحافة الأميركية ووسائل إعلامها كافة تضاعف حملاتها على المملكة من دون أن ننسى مشروع باول للسعودية الذي طرحه في العام 2003 بعنوان: «قليل من الإسلام في مناهج تعليمها ونمط حياتها».
أمّا سورية، في المقابل، فلأنّها قاومت المشروع وفق منهج واقعي وثوابت فكرية وطنية وقومية عبّر عنها أفضل تعبير كلام واضح: لا أحد يستطيع أن يفرض على العرب شيئاً… لسنا في حاجة الى أن نُلقَّن من الآخرين ما يجب أن نفعل… فقد شنّت عليها أشرس حرب من داخل ومن خارج إخضاعاً لها بشكل كامل للهيمنة الأميركية/ الصهيونية.
هذه الهيمنة التي لا تقرّ للشعوب استقلالها وسيادتها الوطنية وحدود كياناتها والكرامات.. جميعها مصطلحات لم تعد تؤدّي المعاني والوظائف نفسها في المعجم الأمبراطوري الأميركي وصارت تنتمي الى تاريخ انتهى فلا يترك مجالاً لكلام على استقلال أوطان وسيادة دول وحريات شعوب.
فالسيطرة الأمبراطورية في التصوّر الأميركي تتجاوز حدود الدول وتسقط أمامها وتنهار كلّ المشاعر والاعتزازات والكرامات الوطنية والقومية!
لقد ارتضت بعض الدول العربية مشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير الذي هو الوجه الاقليمي لهذه السيطرة التنازل الطوعي من دون مقاومة إنْ لم نقل بالتواطؤ عن فكرة الاستقلال والسيادة والوحدة وجعلت حدودها مفتوحة أمام مشروع السيطرة من دون «وعي» لمخاطره، ولم تحاول أن تقرأ في إمكانات الأمّة على الصمود.. فبدت الأمّة مهزومة بانهزام بعض الحكومات والأنظمة وبدا الشعب العربي على خلاف ما هو شعباً غير عصيّ على التدجين والتطويع..
المقاومة في جنوب لبنان، الانتفاضة داخل فلسطين، رفض الشعب العربي التطبيع مع العدو، إرادة الشباب العربي في الإصلاح والتغيير.. كلّها لم تكن تعني شيئاً إيجابياً في حساب هؤلاء يؤسّس لفعل عربي وحدوي يحمي الحقّ في الثروة والكرامة.. الوعي بهذا الحق، خصوصاً الحقّ في الكرامة، كفيل بالتصدّي لمشروع السيطرة المذلّ.
القطريات العربية تتهاوى وحداتها كما نشهد في الراهن العربي. وثمّة من يغالي في التخلّي عن الأقطار على قاعدة المزيد من التشطير في جسد الأمة! السيادات القطرية والوحدات القطرية باتت شكلاً بدون مضمون ويبدو البعض جاهزاً للتخلّي عن ورقة التين وللهرولة السافرة والمذلّة السياسية والإقتصادية والثقافية والأمنية للتوقيع على صكوك الإذعان لأعداء الأمّة.
أن يبلغ التواطؤ أو العجز في أحسن الأحوال هذا الحدّ من التنازل عن السيادات والمقدّسات والكرامات فتدافع عربي محموم الى الدخول في المدار الاسرائيلي دخولاً نهائياً يجيز لهم التقاط ما تبقّى من «خيوط» المشروع الأميركي الأمبراطوري بعد أن أوجد لهم هذا المشروع ضرّة بدور خاص، الجمهورية الإسلامية في إيران.
لقد طارد أهل التواطؤ والهرولة كلّ المفردات القومية الوحدوية واعتقلوها ونزعوا أوراقها من كلّ المعاجم العربية ولم يبق لهم سوى شطبها من ذاكرة الأمس واليوم بادّعاء أنها لم تعد من لغة العصر في المفهوم الأميركي!
هؤلاء الخارجون من الهوية القومية بتهديمهم النظام العربي حوّلوا المنطقة الى أرض تدور فيها حروب وفتن يتمّ فيها اغتيال كلّ ما هو عربي جامع فباتت التكتلات المذهبية والإتنية تهيّئ نفسها لإعادة تركيب جغرافي سياسي جديد بقيادة صهيونية حصرية ما يمهّد لانبساط ما تبقّى من الثروة العربية أمام أدوات النهب الأميركي/ الصهيوني.
القوة هي إجادة استخدام القوة
واذا كان المشهد العربي الدموي الراهن يوجب التنازل عن همّ الشعارات القومية الوحدوية في هذه المرحلة فهو لا يدعو حتماً الى الانسحاق بل الى النهوض بالذات الوطنية نهوضاً ذاتياً علامة وعي للتبدّلات في قواعد اللعبة. فالسيادة الوطنية تعني اليوم تأمين السلامة الداخلية في الدولة القطرية المنفتحة التي تنتهج سياسة تصالحية بين مكوّناتها والتي تعي أنّ الوطن العربي يدخل مرحلة جديدة من الأزمات تختلف عن الأزمات التي عرفها في العهود السابقة، هي أزمات التشكّل الجديد لصراع إقليمي/ دولي جديد، الأمر الذي يلقي على الدولة الوطنية أعباء الخروج من نظرية الدولة المنعزلة في اتجاه دول/ محاور تتّحد بها وتقوى وتأمن شرّ الاعتداء عليها. من هنا كانت دعوتنا إلى مواجهة مشروع التفكيك والتجزئة بمشروع بناء الوحدات الوطنية ومنه إلى إتّحاد عربي وحدوي.
لو أدرك العرب معنى الاتحاد العربي الوحدوي، ولو أدرك بعض القوميين الوحدويين عدم واقعية الوحدة العربية الاندماجية في هذه المرحلة بالذات، لحقّقوا الوحدة العربية عبر الاتحاد.. ولأقاموا نظاماً عربياً ثابتاً وقادراً على إسقاط كلّ المشاريع الساعية الى جعل اسرائيل الدولة/ المحور والدولة الأقوى ونقطة الارتكاز والجذب في النظام الاقليمي..
الزمن في رأينا لم يسقط من أيدي العرب. والتاريخ لم ينته. والعرب لم يصبحوا خارجه. شيء من التروّي وحدّ من الاندفاع في اتجاه العدو، استدراك الذات وتظهير مكامن القوة فيها، فهم العدو وتحليل مكامن الضعف فيه، رصد القوى الدولية المتنامية في وجه من أعلن نفسه سيّد النظام الدولي. كلّ هذا ينبئ بوضوح أنّ الولايات المتحدة ليست القوة الوحيدة في العالم وأنّ اسرائيل ليست القوة الوحيدة في المنطقة. فالقوة هي إجادة استخدام القوة. هذا هو القانون العام الذي يحكم لعبة الانتصار والانكسار في تاريخ الشعوب. ليس لنا سوى أن نطبّق أحكام هذا القانون لنكتشف كم نحن أقوياء، كم نحن قادرون على البقاء داخل التاريخ.