بين موسيقى أندريه ريو والوحش «الداعشي»

كتب نذير الماجد: بينما كنت أمضي وقتاً من المتعة الصوفية برفقة عازف الكمان الهولندي المايسترو أندريه ريو، مأخوذاً بتموجاته النغمية الحافلة بمختلف الانفعالات والتهيجات العاطفية، متنقلاً من ألبومه «الفالس الثالث» إلى العمل الأوركسترالي المهيب «دخول الجنة» حيث يبدأ النعيم بسماع أزلي لحشد الآلات الموسيقية وأصوات البشر، منهياً «وجبتي الموسيقية» بالمقطوعة المشهورة المتوقدة حماسة والتي توقظ في أجبن الجبناء أشد المشاعر الثورية، أعني مقطوعة كارل أورف العالمية المشهورة «كارمينا بورانا»… بينما كنت في هذه الحال، شعرت بأن ذلك تماماً ما ينقصنا نحن المنكوبين بموجات التطرّف والصرعات «الداعشية» بكامل مشتقاتها. وإذ لاحظت الحضور الضخم في سائر حفلاته والتفاعل المرح الذي يكشف عن متلقين منهمكين بالجمال والموسيقى، وبالحياة والبهجة، تفجرت الأسئلة في داخلي: هل تملك الموسيقى وسائر الفنون لدينا مثل هذا الاحتفاء وهذا الحضور الكثيف؟ ألا فهدر الوقت بخوض المعارك العسكرية فيما لدينا تلك الرصاصات الناعمة والرمزية؟ ألا يفعل الفن ومشتقاته فعل الرصاصة والدبابة؟ وقبل ذلك كله، كيف نواجه «داعش»؟ كيف يمكن ترويض الوحش؟

تبدو لي هذه الأسئلة جوهرية إذ أقرأ «الداعشية» بوصفها نقيضا للموسيقى بقدر ما هي حليف للموت. الظاهرة «الداعشية» يحمكها أمران أساسيان: التوحش والاحتكام إلى الموتى. فلأنهم ينشدون الموت بالموت ويتحرّكون بإيقاعات الموتى، فإن المجابهة في نظري لا تقتصر على معالجات أمنية وعسكرية، ولا حتى اقتصادية، بل تتعين أكثر ضمن التحديدات الثقافية الكفيلة وحدها بإشاعة الرغبة في الحياة، فـ»الداعشية» تتكئ على اختلالات عالمية ناجمة جوهريا عن إشكاليات الثقافة وتنحل تلقائيا بالثقافة نفسها، كما لاحظ أمين معلوف الروائي اللبناني المنحدر من تزاوجات ثقافية مثقلة بالهويات، فالشواغل الثقافية على ما يراها في كتابه «اختلال العالم» دواء ناجع لسائر معضلات التطرف والخطب الشمولية.

تبدأ المجابهة الحقيقية متى بدأ الفن. لا تحد الخطيئة «الداعشية» إلا «خطيئة الفن»، والفن وحده، سواء بمفهومه العام كتجاوز لكل ما هو طبيعي التوحش والبربرية أو بما هو رافعة جمالية للأمة والحضارة والحياة المفهوم الخاص ، وحيث يدشن الأحياء عهد القطيعة بالاحتكام إلى أنفسهم. الفن بصفته نقيضا للتوحش أيقونة «داعش» و»ثيمتها المركزية» هو وحده القادر على المقاومة: دعوا الفنون تسرح وتمرح، وإلاّ جاءكم الوحش.

تنتعش «داعش» في كل بيئة تحارب الفنون وتحظر معاهد الفنون، أي في البيئة الحاضنة للظاهرة والتي تعيد إنتاجها باستمرار هي المكان الطارد للمسارح والصالات ومعاهد الفنون. هي المكان الذي يتسع لدعاة الموت وجوقاته ولا يحفل بنجومية مستمدة من بيتهوفن وموزار أو حتى الموسيقي ياني أو أندريه ريو. هي المكان الذي لا يتسع لأغاني الأصفهاني ومعاصيه وهرطقاته الصوتية. إن مايسترو الموت يتسيّد المسرح، يتقدم دوماً على كل أوركسترا ملوثة بالخطيئة الأصلية، بالرغبة في الخلود والدفع بالحياة نحو أجلى صورها الإبداعية.

كيف نعيش كعرائس تحركنا أصابع الموت في مسرحه الكئيب؟ تلك هي وصية الوحش «الداعشي» المرتكزة على تأويله الخاص لأثر ابن مسعود: «من كان منكم مستنا، فليستن بالأموات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتن». من هنا أمكن للإبداع أن يؤول إلى بدعة، إلى جناية ترقى إلى الكفر وتستحق بالتالي – الموت، فـ»الداعشية» ليست منهجاً إحيائياً، ليست بعثاً لمفاهيم وقيم بائدة بقدر ما هي خطاب مؤثّث بانشغالات التنقيب عن البدع، والكفريات، وصولاً إلى ممارسات التطهير التي تتقنها «داعش» ومن يحمل بذور «داعش» أكثر من أي شيء آخر.

الكشف عن البدع، ومن ثم اجتثاثها، شرطان لإعادة انتاج الماضي المتخيل. إعادة إنتاج هي في جوهرها عودة، تجذر أكثر، عودة لإنعاش الأصول، لكل ما هو أصولي، لجعل مسار التاريخ على شكل دائرة، كل نقطة فيه هي بداية ومختتم، هي اتباع وموت، هي أصل لا ينفك يعيد إنتاج نفسه. نحن نلتهم الجذور النباتية لأن الجذور أكثر أهمية على الإطلاق، على حد قول القديسة ماريا في فيلم «الجمال العظيم» للمخرج الإيطالي باولو سورينتينو. وعلى غرار القديسة ماريا، لا يفعل الوحش «الداعشي»، الكائن النهم الذي لا يشبع، سوى أن يلتهم ضحاياه و»الجذور الميتافيزيقية».

لكن، إضافة إلى مزاياها في الاستعاضة عن الإبداع بالتوغل أكثر في كينونته الاتباعية الخالصة، تتمثل الموهبة «الداعشية» الأبرز في احلال نغمات الموت محل نغمات الموسيقى، والقبر محل المسرح والماضي عوض الراهن والمستقبل… وفي اختصار: التوحش محل الفن. أدبيات «داعش» هي نفسها أدبيات التوحش، وما التنظيمات الجهادية على امتداد الطيف السلفي الجهادي إلاّ تنويعات للوحش نفسه والخطاب نفسه: إدارة التوحش، كمرحلة بين شوكتين، بحسب ما تبيّن لنا أدبيات «القاعدة» على لسان أحد منظريها أبوبكر ناجي في كتابه «إدارة التوحش – أخطر مرحلة ستمرّ بها الأمة». إن الأمة هنا تمر في مرحلة انتقالية طويلة ناجمة عن اخفاق الخطب المنافسة «الحداثية بل وحتى الإسلامية الإصلاحية»، وستتسم لهذا السبب نفسه ـ أعني الحضور «الداعشي» الذي يملأ الغياب – بمختلف ملامح الفوضى الخلاقة، لكي يتحقق الحلم، حلم استعادة الخلافة، وإقامة دولة دستورها الشريعة مثلما تفهمها «داعش» وأخواتها.

كتاب «إدارة التوحّش» الذي يتألف من بحث يغلب عليه الطابع الاستراتيجي ومجموعة من المقالات في الفقه السياسي، يعيد موضعة السلفية في الحركات الإسلامية الجهادية الهادفة إلى الاستحواذ على السلطة وإعلان الخلافة، بعد سلسلة من الخيبات التي منيت بها الحركة الإسلامية. أخفق «الإخوان» وأخفق آخرون، والآن جاء دور «الدواعش» كذراع عسكرية ضاربة لا تكترث بالموت وتناهض الحياة والفن والحضارة والرقة البشرية الآثمة بترويض الوحش والكاسرة لفحولته. ولأن «إدارة التوحش»، على ما يقول الكاتب، هي في اختصار «إدارة الفوضى المتوحشة» فعلى الحركة «الداعشية» للوصول لمرحلة التمكين، ذلك الوعد المؤجل، التزود بجميع أدبيات التنكيل والشدة والقهر. في اختصار: نشر الخراب والموت وتعميم ثقافة التوحّش.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى