انتخاب جمعية تأسيسية لمَ لا؟
غالب قنديل
الأزمة الخطيرة التي يجتازها لبنان تكاد تشمل جميع التفاصيل اليومية لحياة اللبنانيين وهي متشابكة ومتداخلة في أبعادها الاقتصادية الاجتماعية والسياسية والدستورية وحتى الأمنية التي تطغى اليوم وتتبدى في صورة التهديد الوجودي الذي يشغل الشعب اللبناني بجميع تلاوينه واتجاهاته من دون أي استثناء.
لا يبدو افتراض أن التوافق بين القوى السياسية على أي شخصية كانت لإنهاء الشغور الرئاسي هو الوصفة المناسبة للخروج من الدوامة القاسية التي تتخبط فيها البلاد وسط الشلل شبه الكلي للمؤسسات، فقد بات واضحاً أن الحل المنشود يفترض بلورة إرادة وطنية ببرنامج خلاص يلبي حاجات التغيير الجذرية دستورياً وسياسياً واقتصادياً ووطنياً.
الأكيد أن الواقع الدستوري الذي أنتجه اتفاق الطائف بات يفرض التغيير وإنجاز التعديلات التي لا بد منها لكسر حالة الشلل الحاصلة التي تمنع أي تقدم إلى الأمام. فالمجلس النيابي في وضعه الراهن ليس عاجزاً فقط عن انتخاب رئيس جديد بل هو ممنوع من إقرار التشريعات المطلوبة لإنقاذ المالية العامة من خطر داهم حذر منه الخبراء وتحدث عنه وزير المالية بصراحة وتتكتم جهات سياسية عدة على أبعاده الكارثية وأقلها تصنيف الدولة اللبنانية في حالة الإفلاس والعجز كما أن المجلس النيابي ممنوع من إقرار سلسلة الرتب والرواتب التي تولد حالة من التوتر الاجتماعي وتهدد الاستقرار. وهي اجتاحت الشهادة الرسمية وطعنت النظام التربوي برمته بينما يكتوي الناس بنار التضخم والغلاء وأزمات الكهرباء والمياه التي تشهد برثاثة العقلية التي تدير الشأن العام منذ اتفاق الطائف، والأمر يستحق ثورة كاسحة ممنوعة بقوة التطييف غير العفوي لجميع وجوه العمل العام.
أما في الواقع الأمني الخطير الذي يتفاقم ويهدد الاستقرار الهش فإن الجيش اللبناني ممنوع من التنسيق مع الجيش العربي السوري في مجابهة العصابات الإرهابية العابرة للحدود كما هي الحكومة ممنوعة من التنسيق مع السلطات السورية في ملف النازحين السوريين.
التشريعات المالية معطلة على حد تبرئة ذمة حكومات سابقة من إنفاق مخالف للقانون ومتنازع في شرعيته، والسلسلة معطلة على حد فرض التمادي بالنهج الاجتماعي الاقتصادي القائم على منع المس بالكتل الاحتكارية وبأرباحها الفاحشة التي راكمتها بفضل النهج الريعي النيوليبرالي الذي أهلك الاقتصاد الوطني ودمر الإنتاج وهمش الطبقات الفقيرة من اللبنانيين والتي التحق بها في السنوات الأخيرة كادحون من النازحين السوريين المقهورين في سوق العمالة السوداء وباتوا قاع الاجتماع اللبناني الحاضر بلا أي حقوق مكتسبة، بينما جرى سحق الطبقات اللبنانية الوسطى بفضل ذلك النهج الذي أمعن تخريباً في الإدارة وهياكلها بتوصيات الجهات الدولية منذ أكثر من عشرين عاماً وقد ثبت فشلها وعقمها لكنها لا تزال سارية من غير مراجعة باستثناء ما جرى في عهد الرئيس إميل لحود من تصحيح لملف الهاتف الخليوي من خلال رد حقوق الخزينة العامة من يد الشركات الخاصة ومتنفذيها في دوائر السلطة والقرار.
مخرج واحد يبدو نظرياً هو الممكن بانتخاب جمعية تأسيسية في لبنان دائرة واحدة وبلوائح للحلفين الكبيرين 8 و14 آذار ولأي تيار أو تحالف آخر يضع نفسه على تمايز معهما وعلى أساس البرامج والخيارات التي تشكل اليوم مضمون التحدي والاختلاف اللبناني. ولتوضع في عهدة هذه الجمعية بعد انتخابها قضايا التعديل الدستوري والإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي واستراتيجيات الدفاع ومكافحة الإرهاب التكفيري.
عبثاً يدور الكلام عن تسويات القشرة والبحث عن مرشحين للرئاسة من نادي العلاقات العامة، فالمعضلات الوجودية تستدعي مبادرات استثنائية ولا تحتمل التخبط في أسر القواعد التقليدية التي فقدت قدرتها على الاستمرار أو التجدد. وحتى يتم التفاهم على مثل هذا المخرج الذي يعني الاحتكام الكلي للإرادة الشعبية ثمة خميرة باقية لفكرة الدولة هي الجيش اللبناني الذي يستحق الحماية والرعاية بأرياف العيون بعيداً عن كل المتاجرات والعصبيات المدمرة.