قتلوه فتفرّقت دماؤه بين القبائل الطائفية

د.رائد المصري

لعلّ أبشع المشاهد التي نراها اليوم هي تلك المتعلِّقة بحالة الفراغ الفكري والمدني والقانوني على مستوى الإقليم وعلى المستوى اللبناني، حيث إنّ إطلاق الفعل أو السكوت عن الفعل سواء بالتواطؤ أو بالتدليس لا سيّما الحالة الطائفية المتمذهبة والتي تمادَت كثيراً في هدْر الحقوق المدنية والسياسية للمواطن العاجز حتى الآن في الدفاع عن نفسه.

حالة الإقطاع السياسي هذه قوّضت الواقع اللبناني وإداراته ضمن غيتوات مذهبية، فاستحال وحدات تتّخذ من العنف أسلوباً في التعبير وفي الدفاع عن مصالحها ووجودها وهو ما توضّحت صورته في السنوات الخمس الأخيرة أيّ منذ بدء أزمة الحرب السورية والخيارات التي انقسم اللبنانيون عليها وحولها.

ما يوجب القول هنا إنّنا نفشل في لبنان عند تناولنا للمواضيع التي تدكّ أسُس الوطن والمواطن، وأعني بها حالة الفساد والاهتراء التي تنخر في مفاصله، ففي البدء كان ما يُسمّى الحراك الشعبي الذي غطّى الساحات وكانت مطالبه محقّة بسيطة في أغلبها، فتماهت السلطة المستذئبة معه حتى تمّ توريطه بما لم تقترفه يداه، وأصبح ضيفاً ثقيلاً على الجمهور اللبناني… وانتهى.

في لبنان فتحت ملفات الفساد على مصراعيها، بدءاً من فضيحة التجسّس والإنترنت وفضائح التلزيمات لشركات الكهرباء وملفات الفيول مروراً بفضيحة النفايات المتراكمة وسمسراتها وصولاً إلى صفقات الهدر والتلزيم والاحتكار والطبابة والصحة وغيرها من فضائح التزوير والابتزاز.

لكن مهلك، أيّها اللبناني، عليك التعقّل والتبصّر في معالجتك ملفات الفساد والأزمات، كونها تحاكِي مزرعة الانتماء التي ينتمي لها بالهوية هذا الفاسد وذاك القاتل والمتورِّط والآخر المقامر والمغامر بأموال الناس وفقراء الحال والمعدومين، فعندها يتوقف الحساب ويُقفل… ونقلب صفحة جديدة من حياة الذين أُذلّوا وكانوا ضحايا المؤامرات بحكم مرور الزمن الطائفي عليه.

لذا أعتقد أنّ ما فتَحه أحد السياسيين اللبنانيين والوزراء السابقين وغيره من ملفات الفساد وسرعة الكشف عليها وسقوطهم بعدما أيْنعت رؤوسهم، بحيث باتت هذه الملفات تشكّل حاضنة شعبية واسعة وتكشف عن عورات هذه الأكثرية السياسية وروائحها، فلم يعد يُجدي نفعاً معها التلطّي خلف الحاجز المذهبي ولا خلف الإقطاع السياسي الذي أصبح منخوراً بالصدأ.

لا بدّ والحالة هذه من وصفة سحرية تنهي ما بدأه البعض حول نشر قضايا وخطر الفساد وانكشافه.. فكانت الدعوة لتطويعه بأقلّ الأضرار الممكنة والحدّ من انتشار هذا السرطان، فبدأوا بالاغتيال السياسي لهؤلاء، حيث بتنا نرى اليوم حالة الاستنفار لهذا الإقطاع السياسي لتدبير وأدٍ جديد لمطلقي مشاريع الوقوف في وجه الفساد بعد أن وأدوا الحَراك الشعبي، ووزّعوا دماءه بين القبائل والقطعان الطائفية كي تضيع.. ولا من منتقم…

هذا الإقطاع السياسي المذهبي اتّحد مع بعضه البعض رغم التباعُد في الخيارات والرؤية السياسية والاستراتيجية في لبنان وفي الإقليم، فتشابكوا ووضعوا كتفاً جنب كتف ليمنعوا تقديم أيّ ضمانات اجتماعية لفقراء لبنان، وليمنعوا عنهم سلسلة الرتب والرواتب. وهي حقّ شرعي ومكتسب لهم، وليمنعوا عنهم قانون انتخاب عصري نسبي وهو أبسط ما يمكن فعله لتفعيل الحياة السياسية. فتحوّلوا للحديث عن المكتسبات الطائفية وللاصطفاف الفئوي والجهوي لتقطيع أوصال الجمهورية وتوزيعها فتاتاً على هذه المحميات الميليشياوية.

في المقلب الطائفي المذهبي الآخر كان إطلاق سراح الشيخ الطراس بناءً على قرار قضائي.. لذا فإنّ ما حصل هو نموذج للقضاء الواقع تحت تأثير السلطة السياسية والضغط الطائفي وتكرار لإطلاق سراح الإرهابي شادي المولوي بعد ضغوط سياسية وطائفية على القضاء…

كلُّ ذلك يأتي في سياق استغلال المسألة المذهبية والطائفية لمنع الأمن العام والقضاء من حفظ الأمن في البلد.

إذن، عملية إطلاق سراح الطراس هي محطة واحدة من فضائح الدولة، لا سيّما أنه ينتمي الى تنظيم داعش الإرهابي، بحسب اعترافات الموقوفين في تفجير كسارة. فتداعيات قرار إطلاق سراحه وغيره من الإرهابيين على الوضع الأمني وعمل الأجهزة الأمنية والقضائية في حفظ الأمن ستكون خطيرة للغاية على هذا البلد وعلى أبنائه وعلى أجهزته الأمنية التي تبذل الغالي والنفيس في حفظ كرامة الوطن والمواطن..

إشارة لا بدّ منها، وهي أنّ انتماء الطراس الى تنظيم داعش الإرهابي لهو دليل على أنّ هذا التنظيم لا يزال يعمل بحرية عبر خلاياه، وأنّ أطرافاً ما في الداخل لا تزال تؤمّن له الغطاء الأمني والسياسي…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى