القدس … عودة لتصدُّر المشهد

راسم عبيدات

نشرت أجهزة الأمن والمؤسسة العسكرية «الإسرائيلية»، تقديرات بأن الهبّة الشعبية التي انطلقت من مدينة القدس، في الثالث عشر من تشرين الثاني، العام الماضي، في طريقها إلى الخفوت والموات. وقد اعتمدت تقاريرها وتحليلاتها وقراءتها وتقديراتها، على أن التراجع في تلك العمليات، بشكل رئيسي، في الشهرين الماضيين، ضد جنودها ومستوطنيها، له علاقة بما قامت وتقوم به الأجهزة الأمنية، من ملاحقة للمحرضين على مواقع التواصل الإجتماعي والتواجد المكثف لقوات الأمن في مناطق وبؤر التوتر وكذلك، السياسة الحكيمة لرئيس الأركان «الإسرائيلي» في المحافظة على روتين الحياة اليومية للفلسطينيين. وما حدث من عودة العمليات، في فترة عيد الأضحى المبارك، أربك المؤسسة الأمنية «الإسرائيلية» وقيادة الجيش، التي عمدت إلى تبرير ذلك بالقول: إن فترة الأعياد تشهد عمليات تصعيد وربما تكون سياسة «العصا والجزرة»، التي أعلن عنها وزير الدفاع الإسرائيلي «ليبرمان»، للعودة بالأوضاع في الضفة الغربية إلى مرحلة روابط القرى البائدة» و«المخترة»، هي التي تدفع إلى مثل هذا التوتر والتصاعد. ومثل هذه التوقعات، سادت قبل العملية التي نفذها الشهيد «أبو سرور»، قبل ما يزيد على ثلاثة أشهر، في إحدى الحافلات «الإسرائيلية» في مدينة القدس، مما يدلل ويؤكد، على أن القراءات والتحليلات والتقديرات «الإسرائيلية»، لا تلامس الجوهر والأسباب الحقيقة لإستمرار وتواصل الهبات الشعبية الفلسطينية، هبوطاً وصعوداً. بل أن عوامل تغذيتها ومواصلتها، مرتبطة، بشكل رئيسي، بما يجري على الأرض وبتصاعد حالة القمع والتنكيل والعقوبات الجماعية، التي يتخذها ويمارسها الإحتلال بحق شعبنا الفلسطيني.

واضح أن العمل والإشتباك الإنتفاضي، يأخذ أكثر من شكل. ولعل ما يجري في المحيط العربي، من حروب وعمليات وكذلك، في دول العالم الأخرى، قد يشكل نموذجا للشباب الفلسطيني، خصوصاً أن هؤلاء الشباب، يشعرون بأن لا مستقبل أمامهم في ظل وجود الإحتلال. فهناك أفق سياسي مغلق وتنكر لحقوق الشعب الفلسطيني، بل وإقصاء له عن الوجود.

يبحث الإحتلال، بعد كلّ عملية فلسطينية، عن المزيد من الإجراءات العقابية والحلول الأمنية، بحق الفلسطينيين. تلك العقوبات المتمثلة بدفع المزيد من كتائب وألوية الجيش «الإسرائيلي» إلى القدس والضفة الغربية. والعقوبات الجماعية: من هدم للمنازل وتقيّد حرية الحركة والتنقل للسكان، إغلاق القرى والبلدات الفلسطينية بالمكعّبات الإسمنتية والأتربة والصخور، سحب التصاريح ومنع السكان من الدخول إلى الضفة والقدس ومناطق 48، الإعتقالات وتشديد الأحكام بحق المعتقلين، التشريعات بإطلاق الرصاص بهدف القتل، تكثيف الإستيطان وعمليات التطهير العرقي، هدم المنازل والإستيلاء عليها، اقتحامات متكررة وحفريات متواصلة حول وأسفل الأقصى الخ. كل هذا يعبر عن غطرسة وعنجهية «إسرائيلية» وعقلية أمنية يقودها وزير الحرب الحالي، ليبرمان، ومعه المؤسسة الأمنية من «شاباك» وغيرها، بأنّ العرب والفلسطينيين، من لا يخضع منهم بالقوة، يخضع بالمزيد منها. وأنّ ظروف وواقع الفلسطينيين الضعيف والمنقسم على ذاته وما يحدث من تطورات على الساحة العربية، من حروب مذهبية وطائفية وانتحار ذاتي وتقدّم الهمّ القطري على الهم القومي والتطور في العلاقات «الإسرائيلية» مع ما يسمّى «الدول السنيّة العربية» نحو التنسيق والتعاون والعلاقات العلنية وتعطل الإرادة الدولية وعدم قدرتها على فرض حل سياسي على «إسرائيل»، من شأنه أن يمكنها من فرض إستسلام على الشعب الفلسطيني، أو سلام «إسرائيلي» قائم على شرعنة وتأبيد الإحتلال، مقابل تحسين شروط وظروف حياة الفلسطينيين تحت الإحتلال، بتمويل عربي وأوروبي.

كلّ هذه العقوبات الجماعية والإجراءات والممارسات القمعية «الإسرائيلية»، بحق الشعب الفلسطيني وما يستتبعها من قرارات وتشريعات وقوانين، لوأد الهبة الشعبية وكسر وتحطيم إرادة الشعب الفلسطيني ودفعه للتخلي عن الصمود والبقاء ومقاومة الإحتلال الصهيوني وقبوله المشاريع «الإسرائيلية»، أثبتت التجربة بالملموس أنها فاشلة. وأن هذه العقوبات، تقول لصناع القرار «الإسرائيلي»، أنه مهما تعاظمت قوة «إسرائيل» ومهما طغت وتجبرت، فإن هناك محدودية للقوة «الإسرائيلية». وأن تلك العقوبات، لا تخرج عن النسق المتوقع، بصرف النظر عمن يقود السياسة الأمنية «الإسرائيلية» عاقلا كان، أو مجنونا، مثل ليبرمان.

الاحتلال، بأجهزته الأمنية وبكل ما يمتلكه، من خبرات وأجهزة تجسس وتكنولوجيا متطورة وعمليات تنسيق أمنية مع السلطة، بدا غير مسيطر على الوضع، أو أنه لا يمتلك المعلومات الكافية عن الوضع الأمني في الضفة الغربية. وأن ما يطلق عليه عمليات «الذئاب» الفردية والعفوية، هو عاجز عن رصدها ووقفها، أو إفشالها، حيث النسبة الكبيرة تنفذ، على عكس العمليات التي أتت في إطار تنظيمي، فهو تمكن من إحباط معظمها قبل تنفيذها. وهذه العمليات، التي عادت مجدداً في فترة عيد الأضحى المبارك وسقط فيها العديد من الشهداء المتهمين بتنفيذ عمليات طعن، أو دهس وغيرها. والتي كان آخرها عملية الطعن التي نفذها الشاب أيمن الكرد، من رأس العامود، في منطقة باب الساهرة بالقدس. والذي أصيب بجروح خطيرة نتيجة طعنه لشرطيين «إسرائيليين»، بعد إطلاق النار عليه. هذه العمليات، تحمل رسائل واضحة لـ«الإسرائيليين»، بأن الحلول لا تكمن في الجوانب الأمنية والتنكر للشعب الفلسطيني وفرض الشروط والإملاءات عليه، بل لا بد من الإعتراف بحقوقه وأولها حقه في الوجود والبقاء والعيش بحرية وعزة وكرامة، بعيداً عن الإحتلال. فلا يمكن لشعبنا الفلسطيني أن يقبل باستمرار الإحتلال جاثماً على صدره. هذا الشعب، مد يده للسلام وقدم الكثير من التنازلات من أجل السلام. لكننا وجدنا ونجد انفسنا كشعب فلسطيني، أمام حكومات «إسرائيلية» متعاقبة، آخرها هذه الحكومة التي تضم كل مكونات ومركبات اليمين الصهيوني والديني، التي تعيش وهم أن الشعب الفلسطيني سيرضخ ويقبل بشرعنة وجود الإحتلال، فلم يعرف التاريخ، لا بقديمه أو حديثه، شعباً خان قضيته وتنازل عن حقوقه، أو تخلى عن أرضه.

عملية القدس، التي جرت أمس، تعيد القدس لتصدر المشهد الإنتفاضي من جديد. هذه المدينة التي يعمل المحتل على عزلها عن محيطها الفلسطيني، ديمغرافيا وجغرافياً. وممارسة كل أشكال التطهير العرقي والعقوبات الجماعية بحق سكانها، تثبت كل يوم، رغم كل حالة الضعف الفلسطيني، بأن الحلقة المقدسية عصية على الكسر. وانه مهما استقدم المحتل تعزيزات عسكرية وشرطية، وبطش ونكّل بسكانها، فلن ينجح في كسر إرادتهم. وأنه لا مناص أمام المحتل سوى الإعتراف بحقهم في الوجود. حقهم في أن تكون لهم دولة ترعاهم وتهتم بشؤونهم وبمستقبل أبنائهم. دولة فلسطينية تكون قدسهم عاصمتها. والمشهد المقدسي مرشح للمزيد من التصعيد، في ضوء ما تقوم به حكومة الإحتلال في شن حرب شاملة عليهم، تطال أرضهم تهويداً، وبشرهم أسرلة. وكل ما يتصل بذلك من تجسيدات مادية، من برامج وخطط ومشاريع وآليات تنفيذية لتحقيق ذلك.

القدس المحتلة فلسطين

Quds.45 gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى