فنكلستاين كاشفاً الحقائق والوقائع 1
جورج كعدي
إسم الأكاديميّ الأميركيّ اليهوديّ نورمان فنكلستاين معروف جيّداً لدى المهتمّين بالمسألة الصهيونيّة والصراع مع «إسرائيل»، إذ عُرف دعمه للقضيّة الفلسطينيّة وخوضه في مواضيع دقيقة وحسّاسة له كيهوديّ، مثل موضوعي الصهيونيّة وتاريخ فلسطين الديموغرافيّ، فضلاً عن آرائه حول صناعة المحرقة، علماً أنّ والديه هما من الناجين منها. وتعرّض بسبب مواقفه المناقضة للعقيدة الصهيونيّة و«الإسرائيليّة» لضغوط في عمله الأكاديميّ كدكتور محاضر في العلوم السياسيّة من جامعة برنستون، فدفع إلى الاستقالة من موقعه الأكاديميّ في جامعة دوبول في شيكاغو عام 2007، وكان محاضراً في العديد من الجامعات الأميركية وأصدر عدداً من الكتب مثيراً على الدوام سجالاً حادّاً على خلفيّة نقده الأكاديميّ الحازم والقويّ لكتّاب بارزين يتّهمهم بتحريف الوثائق للدفاع عن سياسات «إسرائيل» وممارساتها. والجدير ذكره أنّ فنكلستاين حاضر يوماً، قبل بضع سنوات، في بيروت في «مسرح بيروت»، عين المريسة مع الإشارة الموضوعيّة إلى أنّه غير مناهض لوجود «إسرائيل» بالمطلق، إنّما هو من المؤيّدين لحلّ «الدولتين».
أقرأ اليوم الترجمة العربية لكتاب فنكلستاين Knowing Too Much الصادرة حديثاً لدى «شركة المطبوعات للتوزيع والنشر» في 560 صفحة قطعاً كبيراً الإصدار الأميركيّ الأصليّ يعود إلى عام 2012 ، وفي تعريف الناشر على الغلاف الأخير نقرأ الآتي: «كتاب صداميّ، يخرج على سطوة اللوبي الصهيونيّ وهو يغوص في قضايا اليهود الأميركيين، ويشرح بدقّة وتفاصيل إحصائيّة واستفتاءات واسعة واقع حياتهم وميولهم ومواقفهم وما طرأ عليها، ويضعهم ضمن تصنيفات ثلاثة، إثنيّة ومواطنيّة وإيديولوجيّة. يؤكّد حقائق دامغة عن تغيّر مواقف اليهود الأميركيّين التي كانت متعاطفة مع الكيان الصهيونيّ منذ الستّينات، لتصبح الآن معادية أو محايدة في أقلّ تقدير. ويعزو ذلك التغيير كلّه إلى الأسباب الآتية: أصبحت «إسرائيل» عبئاً على أميركا من حيث حجم المساعدات الأميركيّة لها. ممارسات «إسرائيل» الوحشيّة في حقّ الشعب الفلسطينيّ. الغزو «الإسرائيليّ» للبنان وتبعاته على الصعيدين المحلّي والعالميّ. ردود الأفعال «الإسرائيليّة» حيال عملية السلام مع الفلسطينيين وما رافقها من قمع لانتفاضاتهم المتلاحقة».
منذ التمهيد يلفتنا فنكلستاين إلى الحقائق والوقائع الآتية، التي تهمّ كلّ باحث ومحلّل ومهتمّ بالمسألة اليهوديّة والصهيونية و«إسرائيل»:
ـ تشير استطلاعات الرأي الحديثة، وبشدّة، إلى أنّ اليهود الأميركيين ينأون بأنفسهم عن «إسرائيل». لكنّ تلك الاستطلاعات لا تعطينا عاملاً واحداً بسبب ذلك الابتعاد. إن تلك الاستطلاعات، والتاريخ، بالإضافة إلى تفاعلات العوامل الثلاثة ـ العرقية، والمواطنية، والعقيدتيّة ـ تشكّل تضاريس علاقة اليهود الأميركيين مع «إسرائيل». ويمكن المرء أن يلاحظ الدور الذي تؤديه هذه العوامل في نتائج استطلاعات الرأي في الأوساط اليهوديّة. تضمّن استطلاع جاي ستريت الذي أجري عام 2009 تحديد «العامل الأكبر الوحيد» وراء دعم «إسرائيل». وانقسمت معظم ردود اليهود الأميركيين بين ثلاث فئات من الانتماء العرقيّ أنا يهوديّ و«إسرائيل» هي وطني ، والولاء للدولة «إسرائيل» هي حليفة أميركا في الشرق الأوسط وهي تقوّي مصالحنا الأمنيّة القوميّة، والتعاطف العقيدتيّ «إسرائيل» هي دولة ديمقراطية تتبنّى القيم التي أؤمن بها …
ـ يصعب علينا معرفة العامل الأقوى بين تلك العوامل، وتشير الاستطلاعات مع ذلك إلى أنّ الأغلبية الساحقة من اليهود الأميركيين تعارض التوسّع الاستيطانيّ «الإسرائيلي». لكن، أيمكن أن يرجع السبب إلى أنّ الإدارات الأميركيّة المتعاقبة وقفت في وجه «إسرائيل» حول موضوع المستوطنات غير الشرعيّة، أم لأنّ بناء المستوطنات يخرق المفهوم الليبراليّ الذي يقضي باحترام القانون الدوليّ وحلّ النزاعات بطريقة سلميّة؟
ـ يمكننا القول إنّ أساس الرابطة التي ترتكز عليها العلاقة القائمة بين اليهود الأميركيين و«إسرائيل» هي صلة القربى، أيّ تعلّق جماعة عرقية بـ«دولتها» العرقية المزدوجان حول «دولتها» هما لفنكلستاين دليل عدم تأييد أو اعتراف . ويمكننا القول مع ذلك إنه رغم أن دعم هذه الجامعة لـ«إسرائيل» لا ينبع بصورة آلية من هذه العلاقة، إلاّ أنها ما كانت لتقدّم دعماً كهذا في غياب هذا الرابط العرقيّ.
ـ إن النسبة العالية من الزواج المختلط بين اليهود الأميركيين أي بينهم وبين غير اليهود خفّفت قليلاً من تأثير رابطة الدم، وقلّصت بالتالي من شدّة تعلّق الأميركيين اليهود بـ«إسرائيل».
ـ يُجمع مناصرو المودّة القائمة بين اليهود الأميركيين و«إسرائيل»، مثلما يجمع منتقدوها، على إبراز العامل العرقيّ بوصفه العامل المؤثّر الوحيد في هذه المودّة. ويزعم المحافظون الجدد من اليهود أنّ السبب الأهمّ الذي جعلهم يتبنّون مذهب المحافظين الجدد هو الدعم غير المشروط لـ«إسرائيل» الذي يعتبرونه «في مصلحة اليهود».
ـ يسلّم جون جاي ميرشايمر وستيفن أم. والت في كتابهما الذي لقي رواجاً واسعاً «اللوبي «الإسرائيلي» والسياسة الخارجية الأميركية»، بأنّ دعم المحافظين الجدد اليهود لـ«إسرائيل» يعود غالباً إلى أنّهم من اليهود.
ـ كان اليهود الأميركيون حريصين بالدرجة ذاتها على حقوقهم التي كسبوها بصعوبة، وعلى نجاحهم العلمانيّ الذي ترافق مع تلك الحقوق. يعني ذلك أنّ دعمهم لـ«إسرائيل» قد تقلّب، نتيجة لذلك، بحسب حالة العلاقات الأميركية ـ «الإسرائيلية».
ـ عمد يهود أميركا، بسبب خشيتهم من تهمة «الولاء المزدوج» التي لطالما لاحقت اليهود تاريخيّاً، إلى الابتعاد قليلاً عن «إسرائيل» عند توتّر العلاقات بين واشنطن و«تلّ أبيب»، وإلى الاقتراب منها أكثر عندما كانت تقوى العلاقات الرسميّة بين البلدين.
… ولهذه القراءة وأبرز حقائقها ووقائعها تتمّة.