إضراب الأسرى محمد ومحمود البلبول ومالك القاضي كسرٌ لإرادة العدو… ونصر على السجان
محمد زياد
يعيش أسرانا في معتقلات وسجون كيان الإحتلال «الإسرائيلي» نماذج في المعاناة النفسية والجسدية بفعل القهر الذي يمارس بحقهم على كافة الصعد، لا سيما الحياة بالغة القسوة، جراء الممارسات الهمجية والقمعية المستمرة من سلطات كيان الاحتلال وإدارة السجون منذ عقود حتى يومنا هذا.. بمواجهة ذلك استطاع أسرانا أن يرسخوا ثقافة الإرادة، والثبات، والصمود في مواجهة الموت لبلوغ شمس حريتهم.. فالموت لم يكن عائقاً ولو لمرة في وجه إصرارهم على نيل مطلبهم ومبتغاهم.
السجان «الإسرائيلي» لم يترك شكلاً من أشكال الإجرام والهمجية، المؤدية للموت الحتمي في نهاية المطاف، إلا مارسها ويمارسها عليهم.. هذا السجان بات يُدرك جيداً أنه ومع ازدياد حجم الإنتهاكات بحق الأسرى، لن يجد أسرانا في المقابل إلا أشدّ تحدّياً وأكثر إصراراً في السعي بحثاً عن حريتهم.. يواجه الأسرى اليوم سجانهم بالإرادة والثبات في وجه الانتهاكات التي لم تنص عليها سياسةً، عرفاً، أو قانوناً دولياً، ومن تلك الإنتهاكات التي يمارسها الاحتلال على مسمع ومرأى من العالم كله: الإعتقال الإداري، كالإعتقال الإداري لمدة 6 أشهر على سبيل المثال قابلة للتجديد تحت حجة سرية ملفات الأسرى الإداريين.
إضافة إلى سياسة منع الأهالي من الزيارات، حيث أنّ قرار الاحتلال بمنع أهالي الأسرى من زيارة أبنائهم في سجون الاحتلال.. وأسرى قطاع غزة على وجه الخصوص، حيث يعتبر هذا التجاوز جريمة بحق القانون الدولي والأسرى، ويتعارض مع ما ورد في اتفاقية جنيف، المادة «116»، على النحو التالي: «يسمح لكلّ شخص معتقل باستقبال زائريه، وعلى الأخصّ أقاربه، على فترات منتظمة…»، و»يُسمح للمعتقلين بزيارة عائلاتهم في الحالات العاجلة، بقدر الاستطاعة، وبخاصة في حالات وفاة أحد الأقارب، أو مرضه بمرض خطير».
إلى جانب انتهاكات اتفاقية مناهضة التعذيب، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبالأخصّ المادة رقم «5» والتي تنص على أنه: «لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب، ولا للمعاملة، أو العقوبة القاسية، أو اللا إنسانية». والذي يعمل الاحتلال على انتهاكها جهراً دون حسب حساب لجهة مسؤولة، أو لأيّ كان.
في هذا المقال نقوم بتسليط الضوء على الجرائم التي ترتكبها سلطات الاحتلال، وإدارة السجون في محاولة لفت الأنظار للمعاناة التي يعانيها الأسرى في سجون الاحتلال منذ عقود. حيث أنّ وضعهم اليوم أمسى من أهمّ المسائل المحقة والكبرى لشعبنا وحركاته، وقد أخذت حركات المقاومة على عاتقها هذه المسألة… والجدير ذكره أنّ حركات المقاومة أرضخت قيادة كيان العدو مرات عديدة للإفراج عن الأسرى والمعتقلين.. فقد جرى في ما سبق اتفاقيات غير مباشرة لعمليات تبادل للأسرى المعتقلين في السجون مقابل الإفراج عن جنود «إسرائيليين» تمّ أسرهم لدى تلك الحركات على أنهم أسرى حرب، كالتبادل الذي حصل عام 1983، حيث جرى هذا التبادل بين حركة فتح و»إسرائيل» وأُفرج بموجبه عن 4700 أيّ جميع معتقلي معتقل أنصار في جنوب لبنان، و 65 أسيراً من داخل السجون في كيان العدو، مقابل الإفراج عن 6 جنود «إسرائيليين» من قوات «الناحال» في جيش العدو.
كما أجريت صفقة تبادل أخرى في العام 1985 بين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة و»إسرائيل»، والتي أفرج بموجبها عن 1150 أسيراً من السجون «الإسرائيلية» مقابل ثلاثة جنود «إسرائيليين» وقعوا في الأسر لديها كأسرى حرب. إضافة إلى صفقات تبادل للأسرى الفلسطينيين واللبنانيين والتي أتمّها حزب الله بالتفاوض الغير مباشر مع كيان العدو بوساطات دولية، في الأعوام 1991، 1996، 1998، 2004، 2008، أُفرج بموجب هذه الصفقات عن مئات الأسرى اللبنانيين والفلسطينيين، والعرب، والإفراج عن رفاة عشرات الشهداء المحتجزين لدى كيان العدو آنذاك. ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ أكثر من 700 ألف من أبناء شعبنا تداوروا على سجون كيان العدو.
إلى ذلك يعتبر الإعتقال الإداري أشدّ أشكال الانتهاكات جرماً، والذي يوصفه الإحتلال وسلطاته وإدارة سجونه أنّ اعتقال الأسير دون تهمة توجه له أو محاكمة، وذلك اعتماداً على أدلة يسمّيها الاحتلال «أدلة سرية» حيث لا يحق لأحد الإطلاع عليها ، حيث أن هذا كله يعبّر عن عجز الاحتلال عن إثبات أيّ دليل على الأسير. ناهيك عن غرف الإعتقال السرية المضافة إلى سجون كيان العدو المعروفة.
يمكننا ربط هذه الانتهاكات بارتكاب الاحتلال جريمة قديمة مماثلة كانت تتعلق بقانون سمّته سلطات الاحتلال آنذاك بـ»قانون المقاتل غير الشرعي»، حيث أقرّ هذا القانون عام 2002 لاحتجاز الأسرى من الكيان اللبناني دون إخضاعهم للمحاكمة حيث بموجبه يحق لرئيس أركان كيان الاحتلال أن يصدر قرار اعتقال بحق أيّ مواطن تحت تهمة «المقاتل غير الشرعي»، وبذلك لا ينطبق على الأسير صفة أسير حرب حسب المادة رقم «4» من اتفاقية جنيف الثالثة عام 1949، وعرَّفت هذا المادة أسرى الحرب جيداً. كما يطبّق الاحتلال هذا القانون على أسرى قطاع غزة منذ انسحابه أحادي الجانب من القطاع عام 2005، لجأت سلطات كيان العدو لهذا القانون وتطبيقه لفقدانها الصلاحية في إصدار أيّ أمر اعتقال إداري بحق سكان القطاع، بهدف عدم الاعتراف دولياً بحق الأسير كأسير حرب حيث تُمارس بحقه كافة الانتهاكات من أساليب تعذيب دون ضوابط، أو قيود، وبالتالي يُوهم كيان الاحتلال نفسه باعتبار هذه القوانين الهمجية مخرجاً قانونياً له ويعتقد بأنه قادر على التهرّب من المحاسبة الدولية عند الإقدام على ممارسة هكذا انتهاكات. والأصحّ هنا أنّ سلطات كيان العدو تجاهلت وتناست أن الأسرى الفلسطينيين المعتقلون لديها في السجون، هم مدنيون في الأساس ومن حقهم أن يتمتعوا بالحماية القانونية التي توفرها اتفاقية جنيف الرابعة، وإنّ هذه التصرفات الهمجية والغير أخلاقية من كيان الاحتلال تجاه أبناء شعبنا المدنيين، العزل من السلاح لا يمكن أن نعتبره إلا تحايلاً والتفافاً على القانون الدولي، وهذه القوانين التي لا يزال يصدرها إنما تندرج ضمن قائمة التجاوزات والانتهاكات، والمخالفات الطويلة والعريضة للقانون الدولي.
في خضم المعركة المفتوحة بين الأسرى وسلطات الاحتلال والتي تأتي بسبب تلك الانتهاكات التي سلفت وأبرزها الاعتقال الإداري، يأبى الأسرى إلا أن يكونوا ذوي عزيمة صلبة في وجه تلك الممارسات فذهبوا باتجاه الإضراب المفتوح عن الطعام معبّرين بذلك عن رفضهم لتلك الممارسات رغم مخاطر هذا الإجراء الذي أتبعوه مرغمين عليه للحصول على حقهم في الحرية.
بادر الأسير المحرر خضر عدنان لخوض إضرابه الأول عن الطعام في العام 2005 بعد أن اعتقل ثماني مرات قضى خلالها فترات اعتقاله ما بين الاعتقال الإدراي والحكم حيث في هذه المرة أضرب عن الطعام مدة 12 يوماً بعد أن قامت سلطات كيان الاحتلال بوضعه في العزل الإنفرادي بمعتقل «كفار يونا»، حينها لم يوقف إضرابه إلا بعد أن رضخت إدارة المعتقل لمطلبه المتمثل بنقله إلى أقسام الأسري العاديين.
في الثامن من أيار 2015، أطلق الأسير المحرر خضر عدنان إضرابه الثاني والذي دام ما يقارب الشهرين، حيث شكل هذا الإضراب ضغطاً على سلطات الاحتلال إلى أن قامت بالإفراج عنه والتعهّد بعدم اعتقاله إدارياً، حيث خاض هذا الإضراب احتجاجاً على اعتقاله الإداري في تاريخه لمدة ستة أشهر، وعلى الرغم من قرار محكمة كيان الاحتلال «سالم» بإطلاق سراحه على الفور في تشرين الأول من العام 2014، إلا أنّ المحكمة النيابية «الإسرائيلية» حينها اعترضت على القرار لعدم استكمال الأسير المحرر محكوميته. وقامت المحكمة بتجديد حكم الإعتقال في كانون الثاني من العام المنصرم ومرة أخرى في أيار من العام نفسه ولمدة 4 أشهر.
تواصلت الإضرابات عن الطعام من قِبل الأسرى المعتقلين إدارياً، وعرفت هذه الإضرابات بمعارك الأمعاء الخاوية.. حيث خاض الأسرى في مستشفى «آساف هروفيه» «الإسرائيلي» إضرابهم المفتوح عن الطعام للمطالبة بحريتهم وإطلاق سراحهم، ومن الأسرى الذين خاضوا معركة الأمعاء الخاوية، الأسيران الأخوان محمد ومحمود البلبول حيث أضرب الأسير محمد مدة 78 يوماً، وأضرب الأسير محمود مدة 76 يوماً، في حين أنّ الأسير مالك القاضي مضى على إضرابه مدة 61 يوماً..
والجدير بالذكر أنّ الأسيرين الأخوين محمد ومحمود البلبول هما ابنا الشهيد أحمد البلبول الذي تمّ اغتياله قبل ثماني سنوات على يد وحدة من المستعربين تابعة لجيش الاحتلال «الإسرائيلي»، حيث أنّ الشهيد أحمد كان قيادياً بارزاً في كتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري لحركة فتح، والذي ظلّ مطارداً لمدة عشر سنوات قبل اغتياله.. كما أنّ الأسيرين محمد ومحمود أخوة الأسيرة المحرّرة نوران البالغة من العمر 15 عاماً، والتي اعتقلتها سلطات الاحتلال على حاجز «300» العسكري في طريقها إلى المسجد الأقصى، وذلك بعد نقاش دار بينها وبين إحدى المجندات في جيش الاحتلال «الإسرائيلي».. حيث رفضت السماح لها بالدخول وإتهامها بحيازة سكين ومحاولة قيامها بعملية طعن. وحكم عليها بالسجن أربعة أشهر بالإضافة إلى غرامة مالية، وثلاث سنوات مع وقف التنفيذ.
وبالعودة لمسألة الأسيرين محمد ومحمود نشير إلى أنّ حكومة الاحتلال «الإسرائيلي» واصلت التنكيل بالأسرى ومارست بحقهم شتى أنواع التعذيب، في ظلّ حالة التوتر والغليان التي شهدتها سجون ومعتقلات كيان الاحتلال، في إشارة إلى ارتفاع أعداد الأسرى المتضامنين مع الأسرى الذين يخوضون إضرابهم المفتوح عن الطعام، حيث ترفض إدارة السجون في كيان العدو تحقيق مطالبهم العادلة المتمثلة في الإفراج عنهم.
ومن تلك الانتهاكات أيضاً، محاولات عدة لإخضاع الأسير مالك القاضي للتغذية القسرية من قبل أطباء مشفى «ولفسون» إلا أنهم تراجعوا عن قرارهم بسبب مقاومة الأسير الشديدة وإصراره على إكمال إضرابه المفتوح علماً بأنّ الأسير القاضي أصيب بعدة كدمات نتيجة الإضراب إضافة للمعاملة السيئة التي يتلقاها من السجانين.
الأسيران البلبول والأسير القاضي أنهوا الإضراب عن الطعام بالانتصار
وفي هذا السياق، قرّر الأخوان الأسيران البلبول والأسير القاضي أمس الأربعاء 21 أيلول 2016 إنهاء إضرابهم عن الطعام بعد اتفاق مع إدارة سجون الاحتلال، والذي يقضي بالإفراج عن الأسير مالك القاضي اليوم الخميس 22 أيلول 2016، وعن الأخوين الأسيرين محمد ومحمود البلبول في الثامن من كانون الأول 2016.
وجاء على لسان والدة الأسيرين البلبول: «تمّ التوصل إلى اتفاق مع إدارة السجون يضع سقفاً زمنياً للاعتقال الإداري لأبنائي محمد ومحمود، وسيتمّ الإفراج عنهما في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر المقبل، وأنهما علقا إضرابهما عن الطعام. وأنّ انتصار أبنائي هو انتصار للشعب الفلسطيني واليوم تعود الحياة إلى بيتي، ومعنويات أبنائي عالية جداً وكانوا على يقين بالنصر، مشيرة إلى أنّ الحالة الصحية لهما صعبة للغاية إذ يعاني محمود من صعوبة في النطق، ومحمد فقد بصره».
وقد أقام الفلسطينيون الاحتفالات بانتصار الأسرى المضربين عن الطعام مساء أمس، حيث أقيم حفل ضخم في ساحة كنيسة المهد في مدينة بيت لحم، في إشارة إلى أنّ هذا الحفل هو بمثابة عرس وطني، انتصرت فيه إرادة الأسيرين البلبول والأسير القاضي الذين انتصروا على سجانهم.