قالت له

قالت له: الحبّ لحظة نبقى العمر نسعى إلى استعادتها بلهفة وقوعها علينا، أم عمر نعيشه بلحظة تتجدّد؟

فقال لها: هو الاثنتان، حاضر وماض ومستقبل، فالحبّ الذي لا يعيش بقوة دفع لحظة فاقت بجمالها عمراً، هو سعي إلى الحبّ. والحبّ الذي يعيد إنتاج جماله هو وقوف على أطلال الحبّ. والحبّ الذي لا يعرف للغد أمنيات وأحلاماً لا تنتهي هو موت سريريّ بثوب حياة، لأن الحبّ حلم جميل يأتينا في اليقظة، وأكثر جماله نصنعه بعيوننا ومشاعرنا في النظر والتعرّف إلى من نحبّ بمثل ما هو الحبّ تجدّد وجنون ابتكار المفاجآت والإبهار بشدّة الاهتمام لرؤية ابتسامة نصنعها على ثغر الحبيب. ولكن تبقى اللحظة الأولى عاصفة هوجاء سرت بين كيانين وعقلين وروحين وقلبين، فاتحدا من دون أن يتصارحا، وبالغموض والقلق وصناعة الانتظار والدموع والمرارات كتبت لحظاته الجميلة. وهذه اللحظة هي اختصار الحبيبين. وما في داخل كل منهما كما شعار الشركات الكبرى يرمز إلى تاريخها وتتمسّك به لحاضرها ومستقبلها.

فقالت: ولماذا يميل الحبيب إلى القول في كلّ نقاش: «أتذكرين أو أتذكر كيف كنت في أول أيامنا»، وتنفلت الكلمات في وصف شاعري للحظات ومواقف وتعابير ربما صنعناها في خيالنا لوصف مواقف وتعابير عادية وقعت علينا، كأحداث تفوق التصوّر والخيال، فصارت بقوة الحبّ غير عادية.

فقال لها: لأن بعض الحبّ صناعة عقدة الذنب للحبيب، والوقوع تحت عقدة النقص نحوه، ومن دونهما يصير الحبّ معادلة رياضية.

فقالت: ولماذا تبهت الغيرة كلما بهت الحبّ؟ وتشتد كلما اشتد؟

فقال: في كلامك بعض من حقيقة لكنه ليس كلّها. فالغيرة نصفها حبّ ونصفها خوف. الحبّ فيها طري ناعم ويقع عند حدود التذكير بالامتناع عن الشقاوات الصغيرة التي تصيب كرامة من نحبّ، ونصف الخوف شعور بأن في الحبّ مشكلة يخشى عليه منها كمرض عضال نتوقع معه الخبر السيّئ، وأصلها في أننا نريد لأنفسنا ما لا نحتمله للحبيب. والناس بطباعهم أنانيون يستبيحون ما لا يبيحون، ويخترعون الفتاوى لازدواجية المعايير. فكلنا في دواخلنا مستعمرون صغار جاهزون لننمو ونكبر. وكلنا فينا بعض من نظرية «شعب الله المختار» في تفسير لماذا الحلال علينا حرام على الغير. وأحياناً موت هذا النصف المريض من الغيرة وزواله علامة قوة الحبّ لأنه علامة الاستقواء بالإنصاف والثقة، وهما شرطان لا حياة لحبّ من دونهما.

فقالت: ومتى توطد الجسر الواصل بين حبيبين وتفتحت بالكلام العقول كما تتفتح بالنظرات القلوب، تكون فرص المكاشفة بالمكنون. فقد يفقد الحبيب سحراً أوحى به ما قبل الكلام، وفضيحة العقل وكل جنون فضيحة للعقل والحبّ جنون. فهل هذا سبب للفتور أم سبب لمزيد من الشعور والتعمق في المستور؟

فقال لها: النبرة أهمّ من الكلام. نبرة الدلع أم الحساب ونبرة الإغواء أم العقاب. فكلمة «يا ناسيني» تقال بألف نبرة ونبرة، ولكلّ منها عبارة وعبرة.

فأرخت جفنيها وهمست: «يا ناسيني»، أهذه ما تقصد؟

فقال لها: وهل يُنسى الأسى؟ وتبسّم وتأبطها كما تتأبط حقيبة يدها وقال تعالي نتذكّر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى