نهاية رجل شجاع

الفكر الظلاميّ الذي قاتله وحاربه الكاتب والمفكّر الأردني ناهض حتّر طوال حياته، هو نفسه من اغتال الشهيد المظلوم ناهض حتّر. إنها جدلية تاريخية في هذه البلاد. وقضية واحدة تتناسل وتتّخذ وجوهاً وأشكالاً مختلفة عبر السنوات. من ابن رشد، إلى السهروردي المقتول، إلى فرج فودة، إلى إلى… إلى ناهض حتّر.

تستمرّ معركة العقل، ويستمرّ معها نزيف الدم المهدور بالجهل والتخلّف والظلام.

هل قُتل ناهض لأنه شارك رسماً كاريكاتيرياً جدلياً على صفحته الشخصية عبر «فايسبوك»؟ أم لأنه حمل لواء المشرق الحرّ العزيز الموحّد المتنوّر العقلانيّ؟

هل قُتل ناهض حتّر لأنه علمانيّ، أم لأنه مسيحيّ مشرقيّ متصالح في العمق مع بيئته وأمته وقضايا بلاده ومجتمعه؟

هل قُتل ناهض لأنه جريء؟ أم لأنه اتّخذ مع ثلّة مثقّفة من الأردنيين موقفاً مشرّفاً من الحرب الإرهابية الشعواء على الدولة الوطنية السورية؟

هل قُتل لأنه مختلف؟ أم لأنه وقف إلى جانب سورية كدولة قومية تمثّل العمق الحيوي لكلّ مشرقيّ منفتح يفهم معنى الأمم، ويعرف سبل تشكّلها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي؟

هل يؤدّي منشور «فايسبوكي» في بلاد طبيعية إلى القتل اغتيالاً؟ أم أنّ الرصاصات الثلاث التي استقرّت في رأس الشهيد كانت تجيب على كلّ أطروحته السياسية والفكرية والثقافية؟

الحق، أنّ الرجل دفع ثمن عقله ومواقفه وآرائه وكتاباته وتعليقاته. دفع ثمن حياته السياسية والفكرية التي أمضاها في البحث والنقد وإثارة الإشكاليات.

لسنا في بلاد طبيعية. كان ناهض يعرف ذلك، ويناضل بكلّ ما لديه من عقل وأفكار، من أجل بلاد طبيعية خالية من الجهل والتطرّف والقتل والسحل والسبي وشريعة الغاب. خالية من الوهابية والصهيونية وكلّ أشكال العنصرية بِاسم الدين.

إنه ثمن كبير يدفعه صاحب رأي في عالم يزعم الحداثة والتحضّر والتمدّن. عالم كاذب مخادع. يدعو إلى قيم الخير والعدالة والمساواة، ويدعم أصناف التخلّف والتطرّف والاحتلال والإرهاب في بلادنا. ينبش أوسخ ما في تاريخنا، ويعيد تكراره على شكل مأساة ومهزلة.

القاتل الذي وجّه مسدّسه نحو رأس ناهض، كان يطلق النار نيابة عن منظومة كاملة من التآمر والتواطؤ والتحريض. نيابة عن حكومات ودول ومؤسّسات وأجهزة استخبارات. نيابة عن أفكار مسمومة عفنة، عُوِّمت لتحتلّ العقول والقلوب وتجد لها حواضن شعبية وسياسية. نيابة عن دعاة وشيوخ ومفتين وإعلاميين وسياسيين وفضائيات وقنوات أخبارية. نيابة عن عقول مريضة تثابر على اللعبة ذاتها، والاستغلال ذاته، والاستثمار السياسيّ الرخيص ذاته.

يريدون من هذا الاغتيال التخلّص من نبرة ناهض العالية. ويريدون أيضاً، وضعنا أمام معادلة الاختيار، بين دولة تابعة مستتبعة، وبين إرهاب تكفيريّ إسلاموي قاتل متطرّف. وجوابنا بعد استشهاد ناهض ينبغي أن يكون، رفضاً للنموذجين معاً. الدولة المرتهنة خطر على مصالحنا ومجتمعاتنا كما الإرهاب التكفيريّ. وقد حان الوقت لنغادر هذا الابتزاز. ماذا ننتظر؟

لقد حسم ناهض خياره باكراً في هذا الشأن. وقف إلى جانب الدولة الوطنية السورية وحركات المقاومة الصادقة، وميّزها عن تلك التي ضلّت الطريق تحت ضغط السعار الطائفيّ والمذهبيّ.

كان سورياً بقدر ما هو أردنيّ. ومسلماً بقدر ما هو مسيحيّ. وفلسطينياً على الدوام. كان ناهض شجاعاً بقدر ما تستحقّ بلادنا. وهي تستحق الكثير. حتى فداها بدمه.

غسان جواد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى