خطابات الأمم المتحدة وفلسطين
عباس الجمعة
من استمع إلى الخطابات العربية والدولية في قاعة الامم المتحدة يدرك جيداً انّ هناك خطاب استجداء من قبل بعض الانظمة العربية لما يسمّى بالسلام، ولكن هؤلاء الخطباء تناسوا دماء شابات وشباب فلسطين، والتي تتزامن خطاباتهم مع اندلاع ذكرى انتفاضتهم المجيدة، التي أتت بعد انسداد الأفق فأطلقوا صرخة مدوية في وجه المجتمع الدولي المنحاز لكيان العدو واستقراره وأمنه وسلامته على حساب مستقبل الشعب الفلسطيني وشعوبنا العربية.
انّ هذه الخطابات التي لا تريد العنف ولا التصعيد، وتعمل جاهدة لإجهاض الانتفاضة المجيدة والالتفاف عليها لكبح جماح الشباب الثائر على الظلم والطغيان وعلى الأوضاع المزرية التي وصلت إليه سياسة المفاوضات برعاية أميركية كانت لعنة حلت على الشعب الفلسطيني قتلاً وإعدامات ميدانية واعتقالات وتعذيب وجرحى وإعاقات ومصادرة ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وإقامة مئات الآلاف من الوحدات الاستيطانية وجدار الفصل العنصري وحواجز عسكرية وطرق التفافية ومدن محاصرة.
وأمام هذه الأوضاع كان الأجدى للخطباء على منابر الأمم المتحدة ان يروا الهجمة الشرسة التي تجتاح وطننا العربي من قبل أعتى القوى المعادية للإنسانية لم يسبق لها مثيل بوحشيتها وهمجيتها وأفكارها الظلامية المدمّرة، وما خلفته من قتل ودمار للبشر والحجر ولكلّ ما يمتّ للحياة الآدمية بصلة، حيث حوّلت المنطقة الى ساحات صراع على النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية وحقل تجارب لجميع أنواع الأسلحة الفتاكة التي فتكت بأطفالنا ونسائنا وشبابنا في مخيمات سورية، وقبلها في ليبيا والعراق، وهجّرت الالاف منهم في شتى أصقاع الأرض يعانون قسوة التشرّد والفقر والمرض والبطالة وقسوة الموت برداً وجوعاً وغرقاً، لكن الشعب الفلسطيني سينهض من بين الركام كطائر الفينيق ليعلن على الملأ أنه يرفض الظلم والذلّ والهوان ويطالب بالحرية والاستقلال والعودة فوق ترابه الوطني.
إنّ ما يمارسه الاحتلال الصهيوني من قمع وانتهاكات وعربدة هو الإرهاب بذاته، إرهاب دولة تدّعي الديمقراطية أمام العالم الذي يقف موقف المتفرّج على المجازر اليومية في فلسطين، وهذا ما يجعل خيرة شابات وشباب وأطفال فلسطين وهم في عمر الورود يزهدون بالحياة ويندفعون بكلّ إيمان وثبات وبعزيمة حديدية يفجرون غضبهم كالبركان في وجه جنود الاحتلال المدجّجين بالسلاح، ويمرغون هيبة المؤسسة العسكرية الصهيونية بكل ّجبروتها بالتراب، وهم يتلقون الرصاص الحيّ بصدور عارية، لقد أذهلوا العالم بتصميمهم على مقاومة العدو واندفاعهم نحو موت محقق في سبيل الخلاص من هذا الطاغوت الجاثم فوق صدورهم، من اجل ان تضيء للأجيال القادمة درب الحرية والعودة والاستقلال، وهذا يستدعي من كافة الفصائل والقوى الفلسطينية دعم الانتفاضة وتوفير مقومات الصمود والحماية للشعب ووقف التنسيق الأمني وكلّ الاتفاقيات حتى يكون الجميع على مستوى طموحات وتطلعات الشعب الفلسطيني وتضحياته الجسيمة.
ولذلك نرى انّ الوفاء للشعب الفلسطيني من قبل ايّ دولة او نظام عربي هو دعم الوحدة الوطنية الفلسطينية والمقاومة المشروعة وليس التدخل في شؤونه الداخلية، لأنّ الشعب الفلسطيني الرائع المعطاء، ويرى في أمته العظيمة، في دفئها، دفئاً حقيقياً، يعبّر عن امتنان الامة ومحبتها، يعبّر انّ التفاف الجماهير وعطاءها وأملها بانتفاضة فلسطين ومقاومتها، التي تكسر شوكة الاحتلال وتحطم صورته وتفشل جميع محاولاته.
لذلك نقول لقد تساقطت أوراق التوت مع تساقط الأوراق التي حكمت واقعنا العربي، تساقطت بصمود الشعب الفلسطيني، بكلّ آيات الكبرياء والثقة بالنفس، والارادة الحرة، والقرار الوطني المستقلّ الذي يجب ان يكون مفتاحاً لحوار جدي تشارك فيه كافة الفصائل والقوى الفلسطينية بعيداً عن التدخلات الخارجية من أجل إنهاء الانقسام الداخلي وتعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية ورسم استراتيجية وطنية تستند لكافة أشكال النضال والكفاح من أجل تحرير الأرض والإنسان.
انّ العرب الباحثين عن السلام لن يجدوه إلا عبر القوة والإرادة العربية الواحدة الموحدة، فالسلام العادل هو سلام الأقوياء وليس سلام الضعفاء، فسلام الضعفاء هو الاستسلام، وما اخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة، المقاومة العربية اليوم ومعها انتفاضة فلسطين تعيد خلط الأوراق وهي تزداد كلّ يوم التحاماً ووحدة وثباتاً وتلاحماً ثورياً، فشباب ثورة السكاكين والحجارة، يتحدّون الاحتلال وجبروته، في هذه الحقبة التاريخية، في هذا الزمن العربي الصعب، الذي كنا نأمل فيه أن يعزز الطاقات ورصّ الصفوف وتكثيف الجهود العربية كلها في مواجهة الأخطار الداهمة علينا جميعاً الداخلية منها والخارجية وفي مواجهة التحديات المصيرية المفروضة علينا، في مواجهة مشاريع الاحتلال باعتبارها ظاهرة استعمارية يجب مقاومتها كما نصت عليه المواثيق الدولية من أجل تحرير الأرض الفلسطينية وكامل الأراضي العربية من رجس الاحتلال.
إنّ انتفاضة فلسطين تحمل مضامين كبيرة ومعاني كثيرة، وتمثل مرحلة جديدة من النضال الوطني الفلسطيني من الممكن أن تؤسّس لمرحلة جديدة من النضال العربي برمّته، لأنّ الصراع الفلسطيني ضدّ المشروع الصهيوني جزء لا يتجزأ من الصراع العربي الصهيوني، أيّ أنّ المظهر الرئيسي للصراع صراع عربي صهيوني، وبالتالي شابات وشباب فلسطين تسلّحوا بالحجر، بالمولوتوف، بالسكاكين، ضدّ المحتلّ، ليثبتوا أنّ حقهم باقٍ وسيدافعون عنه بكلّ الوسائل الممكنة حتى يتحقق التحرير.
لهذا يجب ان لا نتنظر من الرباعية العربية ولا الدولية ايّ شيء، فأن المرحلة السياسية الراهنة، تستدعي وحدة الشعب والأرض والمؤسسات وتصون حق شعبنا في المقاومة من أجل دحر الاحتلال والاستيطان وتحرير الأسرى وتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في الدولة المستقلة والعودة وتقرير المصير، في مرحلة تتسم بطابعها التحرّري الوطني والديمقراطي.
ختاماً: انّ الشعب الفلسطيني الذي يتطلع الى إنهاء الانقسام وتعزيز الوحدة الوطنية وحماية المشروع الوطني وإعادة تفعيل وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية، يتطلع ايضاً وهو يقدّم التضحيات من الدماء من خلال انتفاضته الباسلة التي تسقط منطق المعادلات في لعبة التوازنات، انّ القرار الوطني سيظلّ قراراً مستقلاً مهما كان الثمن وهو ملك للشعب الفلسطيني والشعوب العربية، حتى لا تصبح فلسطين قميص عثمان لأحد، ولا رقماً في جيب الكبار او الصغار، لأنها ضمير هذه الأمة وعقلها ونبضها سيبقى باتجاه فلسطين…
كاتب سياسي