سقراط شهيد الفلسفة الذي برأته أثينا أخيراً!

كتب وسيم السلطي

«سقراط مدان بارتكاب الجريمتين الآتيتين، أولاً: إنه لا يعبد آلهة المدينة، بل يعبد آلهة من عنده. ثانياً: إنه يضلل الشبّان ويفسدهم. وعقوبة ذلك هي الإعدام».

إنّه الاتهام الذي وجده سقراط موجهاً إليه وهو يجول على مألوفه في أسواق أثينا -التي منيت حينها بالهزيمة بعد حربها البلوبونيز التي خاضتها مع أسبارطة- بعينيه الجاحظتين وشفتيه الغليظتين وقدميه العاريتين دوماً، إذ يقف طويلاً شارداً أمام أبواب أحد المحال ليقول من ثم: «لا أريد شيئاً من هذا»، ويمضي بعد ذلك ليؤدي واجبه اليومي، نشر الحكمة. الحكمة التي لطالما ادّعى طيلة حياته أنه لا يملكها، إذ كان دائم القول: «أنا لا أعرف سوى أمر وحيد، هو أني لا أعرف شيئاً». «مُنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض»، على ما وصفه نيتشه، واجه تهمته بكل قوة وحكمة واتزان. وقف يدافع عن نفسه غير ذليل وغير طالب العطف من أحد، رافضاً جلب أطفاله إلى قاعة المحكمة كي لا يشفق عليه القضاة، لدى رؤيتهم يبكون أباهم فيخفضوا له عقوبة الإعدام. كان في وسعه أن يبدّل عقوبة الإعدام باستبدالها بالنفي مثلاً. إذ جرت العادة في أثينا أن يقترح المدعي حكمه والمدعى عليه حكماً، ثم ترى المحكمة بعد ذلك رأيها. فضلاً عن قدرة بعض أثرياء أثينا وبينهم تلميذه أفلاطون على رشوة السجان وتهريبه من السجن. ولكن سقراط أبى ذلك واعتبره جبناً، ورأى أن موته حان وأن الآلهة التي اعتاد سماع إشارتها والتي لا تنفك عن إرسالها لم تقم بهذه المهمة أثناء معرض دفاعه عن نفسه أمام متهميه، ولعل ذلك على حد تعبيره خير لا شرّ فيه.

لذلك آثر الموت ولم يزل صحيح البدن رغم تقدمه في السن، على أن تمتد به الحياة فيطعن في السن وتنحل قواه، وهو الذي كان يزهو دوماً بقدرة بدنه على احتمال المشاق، وهو حائز جائزة الشجاعة في الحرب، ولم يكن في وسع أحد سواه في أثينا أن يسير عاري القدمين فوق الجليد في غمرة الشتاء القارس.

شهيد الفلسفة، سقراط، تنبأ بالعار والخزي لمن وجه إليه التهم ولمدينته أيضاً، وأنه سيأتي جيل بعده ويكمل مسيرته التي بدأ بها. وكانت كلماته الأخيرة التي نطق بها بعد صدور الحكم بالإعدام: «ليست المشكلة يا قضاتي في أن ننجو من الموت، بل في النجاة من الجريمة، لأن الجريمة أحث من الموت خطوة وأسرع بنا لحاقاً. لقد لحق الموت بي ولكن الإثم لاحق بمن وجهوا إليّ التهمة. وسألقى أنا عقابي كما سيلقون عقابهم». في مشهده الأخير من الحياة، كان زاره طلابه في السجن وهم يستمعون إلى معلمهم، متحدثاً عن الخلود والموت والحياة. جاءه السجان وفي يده السم، وطلب منه أن يشربه وهو السجان يجهش بالبكاء، وكذلك كانت حال تلاميذه. فطلب سقراط إلى الجميع الهدوء ليموت بدعة وسكينة، فكان له ذلك، من ثم أخذ يشرب من شراب «الشوكران» ليستلقي بعد ذلك على السرير وينظر إلى طلابه نظرة أخيرة.

بلى أيها الحكيم، صدقت نبوءتك، وكان حكمك بالإعدام وصمة عار في تاريخ الفلسفة الأوروبية وطعنة في ديمقراطية أثينا الحديثة التي أصدرت في حقك منذ فترة ليست ببعيدة حكم البراءة، لكنها ويا للأسف جاءت متأخرة كثيراً وغير شافعة لهذا الفعل المجحف.

«العرب»

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى