الصوت النشاز وسط الجهل والطائفية
جورج كرم
يعرض فيلم إليان الراهب «ليال بلا نوم» بعض ذكريات السفاح «التائب» أسعد الشفتري، المسؤول في جهاز أمن القوات اللبنانية، بكاميرا ذكية وإخراج رائع يتساوى مع أعمال وثائقية أحببتها مثل أعمال المخرج مايكل مور. ودمجت طريقة الإخراج صوت «الإعترافات» مع مشاهد لنظرات وجه المتكلم وسماته، فعبرت لغة الوجه و تحركات الجسد والتنهدات والنظرات ونفخ دخان السيجارة عما وراء الكلام الذي يقال، وكان لبعض المشاهد تلك وقع خاص، مثل الطريقة التي ضرب بها سائق السيارة بيده على جبهته كلما سمع شيئاً مريعاً من الشفتري أو لفافة مريم الصعيدي الحاضرة أبداً بين أصابع الأم المفجوعة بفقدان إبنها ماهر قصير ذي الستة عشر ربيعاً في معركة كلية العلوم في الجامعة اللبنانية إبان الإجتياح الصهيوني عام 1982 وكان يقاتل في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني يوم سقط المبنى في أيدي الإنعزاليين وكاد الفيلم يروي القصة حتى من دون أي كلام للشخصيات المشاركة لبراعة تصويره وإخراجه.
وجه الشفتري الكاريكاتوري اليوم، بعد أن شقت فيه السنين تجاعيد وأحدثت مساحة جرداء على معظم رأسه، تضفي صفة الحكمة على شخصيته. رغم ذلك كله، إن دل هذا الوجه على شيء فعلى أنه ليس نادماً على ما قام به. وأفادتني رفيقة عاملة في حقل العلاج النفسي شاهدت الفيلم في جلسة «سينيه كلوب» حميمة جداً لناحية عدد الحضور أقمتها لمشاهدة الفيلم وتقويمه، أنّ من الواضح أن الشفتري يعاني حالة نفسية خاصة بالمجرمين والقتلة اسمها «سيكوباث»، أي الشخص الذي لا يمكن أن يشعر بمعاناة الآخر، ومن الأدلة العديدة المتوافرة على ذلك أنّ يوم واجهت الصعيدي الشفتري خلال معرض صور المفقودين في الحرب اللبنانية، وقف الشفتري كصنم بلا أدنى تغيير في تعابير الوجه، رغم توسل الصعيدي إليه أن ينقل إليها شيئاً مما يعرفه عن مصير ابنها، ومن الواضح أن الشفتري كان يعرف شيئاً أو أكثر عن الأمر، وحين سُئل في مشهد آخر عن مكان المقابر الجماعية أو عن معلوملته المتعلقة بمصير مقاتل «مسيحي شيوعي» فقد في معركة كلية العلوم اعتذر عن الإجابة متذرعاً بأن المعلومات التي يعرفها تتعلق بشخص آخر وليس في إمكان الشفتري أن يبوح بشيء عن هذا الموضوع على هذا الأساس، ما أثار حنق المخرجة فطلبت إليه أن يخرج من سيارتها لعدم تعاونه. كما أن أسعد الشفتري التائب من غير توبة يظهر في مشهد آخر في الفيلم نفسه كأنه يتاجر بالأسلحة وبينها بندقية قنص تتمكن من النيل من طريدتها البشرية عن مسافة أكثر من كيلومترين، فكم من نادم وتائب على أعمال قتل وخطف وتعذيب يتاجر بالأسلحة التي تستعمل لقتل الأبرياء في معظم الأحيان.
يتطرق الفيلم إلى الآفة الإجتماعية المتمثلة بالحقد الطائفي ضد الغير كمرض وراثي من خلال عرض ولاء والد الشفتري المنقطع النظير للانتداب الفرنسي وغناؤه النشيد الوطني الفرنسي، وتستخدم المخرجة غناء والد الشفتري ببراعة جذابة، رغم تقدمه في السن، خلفية صوتية لبعض لقطات الفيلم. وتطرّق أيضاً بطريقة غير مباشرة إلى نفسية القتل بدم بارد المتنقلة من بعض القواتيين إلى أبنائهم في مشهد يصوّر مجموعة صيادين أحدهم حديث السن يتحدث عن الإثارة في رياضة صيد الأرانب. ورافقت المخرجة كلام الشاب الحديث السن بمشاهد لجزار يقطع الأرانب ويسلخها، فتبدو كأنها جثث بشرية تقطع بهذا الشكل الهمجي في سياق دراما الفيلم، خاصة إذ أخذنا في الإعتبار الخلفية الإجرامية لبعض المشاركين في رحلة الصيد هذه. والجدير ذكره أن نظرات الشاب الحديث السن وهو يتكلم عن قتل الأرانب تبدو فارغة من أي حس إنساني مثل نظرات الشفتري نفسه.
التركيز في الفيلم على اختفاء مقاتل واحد من حزب مهمش نسبياً والبحث عنه آثاره في أرشيف جرائم الشفتري التي قد يكون تجاوز عدد ضحاياها الآلاف، بدا كأنه يبرز بصورة مقصودة أو عفوية دور الحزب الشيوعي في مواجهة الاحتلال الصهيوني آنذاك ويضخم هذا الدور بطريقة ذكية، متجاهلاً دور أحزاب أخرى مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي في معركة كلية العلوم الذين أوفاهم الشفتري حقهم، مستحضراً عملية إعدام مقاتلي القومي بوضوح وبرع الشيوعيون أكثر من غيرهم من الأحزاب المناضلة في تضخيم بطولاتهم وعطاءاتهم وتغطية الأخبار والتحقيقات على محطة «الجديد» أفضل مثال، ومن كان ليسمع بحنا غريب كبطل أو مناضل نقابي شعبي لولا تركيز محطة «الجديد» على دوره لساعات لا تنتهي، في تغطيتها على الهواء خلال الأشهر المنصرمة، مع الإشارة إلى أنه لا بد في هذه الحال من التنويه بأن الأستاذ غريب نقابي أشوس له دور كبير في محاربة عصابة آل سعود المالية في مواجهة المجلس النيابي، ولا أدري كم من حنا غريب آخر جدير بالهواء لم يتسن له الظهور بسبب سياسة المحطة.
وجد بعض حضور الـ»سينيه كلوب» الخاص بعرض الفيلم من غير أبناء الوطن التركيز على كلية العلوم في مشاهد عديدة تطول، أحيانا مملة وفي أحيان أخرى خارج السياق، لجهلهم بحيثيات معركة اجتياح لبنان من قبل الصهاينة آنذاك، ولم يوفر لهم الفيلم الشرح الكافي عن تلك المرحلة، ومن تفاصيلها معركة كلية العلوم. وهم المشاهدون أنفسهم الذين أثارت فضولهم مشاهد حركة المصالحة القائمة في لبنان برعاية أجنبية، وتمنوا لو تضمن الفيلم تفصيلاً أكبر عن تلك الفعالية.
لم أفهم دور الرجل على القارب الصغير الذي علا نصفه الأعلى وانخفض أمام الكاميرا مع حركة الموج مراراً خلال إدلاء بعض القواتيين بدلوهم خلال الفيلم الوثائقي، ولم أدر إن كان أحد النادمين أو المجرمين أو بحسب الخرافة الإغريقية رمزاً لانتقال أرواح شهداء الحرب بسلام وطمأنينة إلى العالم الآخر. ومثلما أن مفقودي الحرب ما انفكوا يبحثون عن الراحة الأبدية، كذلك اهلهم وأحباؤهم الأحياء في حاجة إلى راحة وطمأنينة من القلق الدائم على مصير أبنائهم لم يوفرها الشفتري بإجاباته. ولعل بحار القارب المتنقل بين عالم الأحياء والأموات قادر على توفير الراحة لمن رحل منهم من دون معرفة مصير أحبائه خلال الحرب البشعة.
إليان الراهب صوت نشاز في منطقة لبنانية غارقة في أحلام الجهل والطائفية المتصهينة اليائسة. صوت غرد «ألحانا» سينمائية رائعة في هذا الفيلم، مع الأمل أن نسمع الكثير من هذا «الصوت» السينمائي العذب في أفلام قادمة. أما «توبة» الشفتري التي من غير الممكن تفسيرها سوى بالدوافع الدينية كمحاولة يائسة من سفاح لتفادي جحيم الآخرة، فلا قارب خلاص لنقله إلى العالم الآخر قبل أن يحفر تراب الأمة كله بأظافرة مستخرجاً آخر عظمة لآخر مفقود كان مسؤولاً عن اختفائه.
كاتب سوري من جبل لبنان