الناتو بين الحقيقة والدعاية
نشرت صحيفة «إيزفستيا» الروسية تقريراً للمحلّل السياسي آلِكسي موخين، يشير فيه إلى أن القدرة الدفاعية الحقيقية لروسيا تتمثل في مواقفها المتزنة.
وجاء في التقرير: يطرح المحلّلون من مركز المعلومات السياسية، والكثيرون من الروس السؤال التالي: ما مدى الخطر الذي يشكله حلف شمال الأطلسي الناتو على روسيا وعلى النظام العالمي؟
وجاء الردّ على هذا السؤال في تقرير الناتو: المقدّرات والنيّات.
ويعزى السبب في طرح هذا السؤال إلى أن جنرالات الناتو المتقاعدين والذين لا يزالون في الخدمة، يتحدثون بصوت عال أكثر من ممثلي المؤسسات الغربية الأخرى عن «عدوانية» روسيا. وبقلبهم الأمور رأساً على عقب يدبجون حقائق عدّة عن عدوانهم في أوروبا وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى وغيرها من مناطق العالم.
ويصرّ هؤلاء على أن سبب توسع الناتو شرقاً هو تعزيز روسيا قدراتها العسكرية، متعمدين نسيان أن تسلسل الأحداث يخالف هذا المنطق.
ومن الواضح أن دوافع هؤلاء بينة: فبعد تفكك الاتحاد السوفياتي لم تبق هناك حجج لبقاء الحلف، لذلك من الضروري تبرير وجوده، من أجل استمرار تمويله.
وعلاوة على ذلك، وعلى ضوء التحولات التي حدثت في أوروبا في تسعينات القرن الماضي، عندما زال عملياً احتمال نشوب الحرب، بدأت في الناتو عملية تشديد السياسة العسكرية وإعادة تنظيمه. وأرادت قيادة الحلف حينذاك الاستفادة من الأوضاع السائدة ـ تقلّص النفوذ الروسي ـ لتوسيع نفوذه على حساب بلدان أوروبا الشرقية.
ونجم عن هذا التوسع ظهور أكبر قوتين بيروقراطيتين في أوروبا الناتو والاتحاد الأوروبي. ولكي نفهم مكانة الساحة الأوروبية بالنسبة إلى الحلف، يكفي أن ننظر إلى خريطة توزيع قواعده العسكرية فيها.
وكما يقال: الشهية تأتي أثناء الطعام، فإن الحديث اليوم يدور عن إنشاء ناتو عالمي ـ وهذا الحلف العسكري سيوسّع مسؤوليته لتشمل العالم أجمع. وهذه الخطط يسمّونها في واشنطن وبروكسل «عولمة هياكل الأمن الأورو ـ أطلسي». وقد برّر اعتماد الاستراتيجية الجديدة للحلف نشوء نزاعات محلية عدّة ودول صاروخية ونووية جديدة، وكذلك ظهور دول خطرة من ناحية إمكان استخدامها الأسلحة الكيماوية والبيولوجية.
والمثير للاهتمام أن غالبية النزاعات أثارتها الولايات المتحدة أو كانت من صنع يديها مع بريطانيا، وأن انبوب الاختبار في يد كولن باول لا يزال ماثلاً أمام أنظارنا. بيد أنه أصبح واضحاً تماماً أن الأهداف الرئيسة لعولمة الناتو، حماية مصالح الولايات المتحدة والدول الرائدة فيه على مستوى العالم. ويبدو كل شيء مرعباً كما خُطّط له. ولكن عندما درس المحللون الموضوع عن قرب تمكنوا من إظهار التناقضات.
ويبيّن تحليلنا أن عمليات الناتو المعروفة كافة لم يحالفها النجاح. والمثير للدهشة أن مسؤولين رفيعي المستوى في مقر الناتو يعترفون بعدم قدرة الحلف على تنفيذ المهمات الملقاة على عاتقه في حالة نشوء النزاعات طويلة الأمد. لا بل أنّ الجزء الأكبر من المهمات التي نفذت كان لها ردود فعل سلبية داخل الاتحاد الأوروبي وسياسته الخارجية. ويمكن اعتبار انسحاب بريطانيا من الاتحاد هو انهيار الاتحاد الأوروبي كمركز للقوة.
وقد أدركت قيادة الناتو في النهاية عدم فاعلية الجيوش الوطنية التي تعمل تحت قيادة موحدة، بسبب الحساسية العالية لسكان البلدان من الخسائر، لذلك أصبحت تستخدم الشركات الحربية الخاصة. ومن أجل ذلك كان لا بدّ من الحصول على أموال ضخمة كالتي يتحدث عنها الأميركيون مع شركائهم في أوروبا. ومفهوم أيضا أنه لا يمكن استخدام الشركات الحربية في حروب واسعة النطاق.
ويستخدم الناتو تقنيات التكنولوجيا السياسية لإخفاء أخطائه التي ارتكبها في أفغانستان والعراق وفي سورية حالياً، وتحميل مسؤوليتها منتقديه في شخص إيران وروسيا، ويوجّه لهما التهم التي يجب أن توجّه منطقياً لقيادة الناتو.
وعلى رغم هيبة الحلف، فإنه يتحوّل إلى ما يشبه واجهة عرض لعلامة تجارية، تحاول قيادته وبالدرجة الأولى واشنطن من ورائها جذب رؤوس الأموال. ولكن مع مرور الوقت تتقلص القناعة بهذه المحاولات.
وها هي أسطورة جديدة تظهر «الخطر الروسي» التي يجب أن تساعد في «إعادة تشغيل المنظومة». ويُستخدم مثل هذا «الإلهاء عن شيء رديء» من قبل المتحدّثين في الدول الأعضاء في الحلف، إذ يشير المحللون إلى أن هذه الممارسات ظهرت فور توقف عمليات الطرد المركزي في روسيا عقب تفكك الاتحاد السوفياتي.
وحجتهم في هذا، الزيادة الكبيرة للنفقات العسكرية في روسيا. ولكن إذا نظرنا إلى الوضع خلال هذه الفترة الزمنية فإنه يصبح من المستحيل مقارنة النفقات العسكرية الروسية بالنفقات العسكرية الأميركية، إذ يظهر أن النفقات الروسية ازدادت في السنوات الأخيرة فقط. وإذا أخذنا بالاعتبار وتائر زيادة النفقات العسكرية لبلدان الناتو خلال فترة زمنية طويلة، فسوف يتضح أن الحديث عن العدوان الروسي أمر غير موضوعي.
طبعاً في ظلّ هذه الظروف تضطر موسكو إلى الدفاع عن نفسها. كما يبدو من تصرفات قادة الصين والهند واليابان أنهم أدركوا المسألة جيداً، إذ رغم الضغوط الكبيرة المسلطة عليهم من جانب الولايات المتحدة، فهم يثمّنون عالياً سياسة روسيا المتزنة.
إن «القيم الديمقراطية» التي يراها المجتمع الغربي من تأليفه ليست سوى بارود وغبار في الحرب الهجينة الحالية، التي أشعلها الحلف بنفسه. لذلك ونتيجة لهذه الاستخدامات تحولت هذه القيم إلى أكاذيب تقدم على أنها حقيقة. ولقد أدرك هذا الأمر العديد من اللاعبين الدوليين.
هذا السلوك يظهر الحلف كأنه نمر، ولكن كما يقولون من ورق. ومع ذلك، إذا أخذنا مقاييسه بالاعتبار فعلينا عدم الاسترخاء، ومن الأفضل البقاء في حالة تأهب.