السعودية بين بديهيّات «الوهبنة» ومبرِّرات «العصرنة»
خضر سعاده خرّوبي
منذ نشأتها، وحتى اليوم، كانت مفردات «النفط»، و«الأمن» و«الاقتصاد الريعي» سمات أساسية في رسم ملامح الحكم في السعودية، وإحدى أبرز الكلمات المفتاحية لفهم وتوضيح طبيعة المشهد هناك. فمنذ توقيع الصفقات الأولى لاستثمار حقول النفط السعودية في ثلاثينات القرن الماضي من قبل الشركات الأميركية وحصول المملكة على ما تناهز قيمته 250 ألف دولار أميركي وقتذاك، ما زال الاقتصاد السعودي يصنّف كـاقتصاد قائم على ركيزة واحدة، خصوصاً لجهة اعتماده على عائدات «الذهب الأسود» بنسبة تقارب السبعين في المئة. وبالعودة إلى التاريخ، فإنّ البلد الذي يسمّيه البعض «مملكة الدم والنفط»، سبق وأن اختصره أحد سفراء بريطانيا لدى الرياض، بكلمات ثلاث تبدأ بالحرف نفسه «آي» باللغة الإنكليزية وهي كناية عن: «إسلام، انعزال، وانعدام كفاءة».
اليوم، ومثلما كان عليه الحال منذ توقيع الاتفاق النووي الإيراني، بين طهران و»السداسية الدولية»، الذي حثّ الرياض على إظهار «حزمها» ضدّ غريمها الإقليمي على الجبهة السياسية، في اليمن، وأخرى على الجبهة الاقتصادية من خلال الحملة لتخفيض أسعار النفط، ما زالت السعودية، في عهد الملك سلمان الذي يقترب من إطفاء شمعته الثانية بعد أشهر قليلة، تستمر في تلقف إشارات الخطر الداهم والتهديد الملحّة بأوجه سياسية وأمنية عاجلة، تتعلق أساساً بخطر «الإرهاب»، وأخرى اقتصادية آجلة، تتصل جوهرياً برؤية الرياض لحقبة «ما بعد النفط» وضرورات «عصرنة» البنية الاقتصادية والاجتماعية للمملكة، فضلاً عن الاستجابة لهذه الإشارات بأشكال ما انفكّت أقلام المحللين تبشّر بثمارها، وتحذّر من مساراتها، خصوصاً أنّ عدم اليقين في قطاع الطاقة، يترافق مع التغيير السياسي السريع في «مملكة الوهابية».
إلى ذلك، يبدو المشهد السعودي مفتوحاً على احتمالات شتى من سيناريوات التغيير أو الإصلاح، مع صعود نجم النجل المفضّل للعاهل السعودي، ولي ولي العهد محمد بن سلمان، لا سيما أنه يتبوأ منصبي وزير الدفاع ورئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، وهو المجلس المسؤول حالياً عن تشكيل السياسات الاقتصادية للمملكة، فضلاً عن تكليفه من قبل والده بترؤس هيئة جديدة لرسم السياسة النفطية.
وبحسب المتابعين للشأن الخليجي، فإنّ «غطرسة» ولي ولي العهد، المختبئة خلف نقص نسبي في خبرته السياسية، إنما هي الوجه الآخر لصعود أسهم الرجل «المؤمن» بقناعات كلّ من رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، وأبرز الوجوه الثقافية في التاريخ الصيني صن تزو حول «الفرص» التي تنطوي عليها «المحن والأزمات»، وما أكثرها في واقع النظام السعودي الذي تركّزت سياساته منذ الحرب العالمية الثانية على الإبقاء على «الستاتيكو» أو الحفاظ على الوضع الراهن.
انخفاض أسعار النفط وأزمة الرياض المالية: هل سقطت معادلة الإنفاق مقابل الصمت؟
في دراسة نشرها موقع «وورلد بوليتيكس» في العام 2001، بعنوان: «هل يعرقل النفط الديمقراطية»، شرح الكاتب الأميركي مايكل روس «تأثير الضرائب» و»تأثير الإنفاق الحكومي، معتبراً أنّ عدم فرض سلطات أي بلد الضرائب على مواطنيها من شأنه أن يقلل احتمالات مطالبة السكان بالتمثيل أو محاسبتهم لحكامهم، كما أنه يسمح لهؤلاء الحكام بتمويل مشاريع رعاية مكثفة لتحسين سمعتهم أمام الجمهور، على نحو يضعف فرص قيام مجتمع مدني فاعل، كما هو الحال في أقطار «مجلس التعاون الخليجي»، وخاصة السعودية. وعلى ضوء التطورات المتسارعة منذ بدء عهد الملك سلمان، الذي يضع محللون سلطاته في نطاق «نظري»، مع وجود من يقول إنّ الأمير محمد بن سلمان، يعبّد الطريق شيئاً فشيئاً على طريق الانتقال من مكانة «العاهل غير المتوّج» أو «الملك بالقوة» إلى رتبة «ملك بالفعل»، يرى خبير الطاقة جان فرانسوا سيزنك أنه قد «أصبح من الشائع القول إنّ هناك عقداً اجتماعياً في السعودية بين الشعب والعائلة الملكية، حيث توفر الأسرة الحاكمة ما يحتاجه الناس في مقابل السيطرة السياسية والاقتصادية»، مشدّداً على أنّ هذا الوضع الذي كان سائداً في الماضي، «في طريقة إلى التغيير الآن»، في إشارة إلى ما يتلمّسه الأستاذ المشارك في معهد الشرق الأوسط في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا، من تحركات الرياض «بعيداً عن كونها دولة ريعية، وتقترب من طراز اقتصادات الدول الأكثر نمواً في مجموعة العشرين، التي تتمتع المملكة بعضويتها».
مع ذلك، ومن منظور مراقبين أجانب، فإنه لا يمكن لدول مجلس التعاون الخليجي أن تُصلِح بسرعة أنظمتها المعقدة، لأنّ هذا القرار له أبعاد فردية وثقافية في كلّ دولة، ويتعلق بتغيير العقد الاجتماعي، لا سيما أنّ أكثر الدول التي سيتغير فيها هذا العقد بشكل كبير هي السعودية، بما يضع القيادة السعودية الحالية في أتون خطر هو الأكبر بين بقية دول مجلس التعاون الخليجي، في ظلّ انتشار الأفكار المتشدِّدة لدى قطاعات واسعة داخل المملكة، مرتبطة برفض قيم «الديمقراطية» و»الحداثة» و»الليبرالية». على هذا الأساس، أصبح استخدام الرياض كلاً من التيار الديني والتيار المدني في وجه بعضهما البعض، وفق «مقتضيات الظرف الزمني» ودورات «العصر السياسي»، جزءاً من السياسات الداخلية للحكم السعودي، حيث نلحظ استراتيجية مساندة للتيار المدني، حين يتعلق الأمر بالحاجة إلى إجراء «تحديثات اجتماعية» مرفوضة من التيارات المتشدّدة، وهي استراتيجية مختلفة جذرياً عما تعتمده السلطات السعودية حين تشتدّ رياح المطالبات بتغييرات بنيوية سياسية، إذ جرت العادة أن تتلفح عباءة التيار الديني لتجنب «الكأس المرّة» للإصلاحات، بشقها السياسي.
من منظور بعض التحليلات الأميركية، وفي سياق تحول سعودي من «اقتصاد ريعي» إلى «اقتصاد تقشفي» فرضته الظروف المالية الحرجة، أصبح رفع الدعم عن بعض السلع والخدمات، واقتطاع رواتب الموظفين العموميين والمسؤولين مشهداً مألوفاً لأجيال سعودية بدأت تشعر للمرة الأولى بـ «لسعة التقشُّف»، كما أنه لم يعد غريباً القول إنّ «المملكة الصحراوية»، ذات «السجل المتواضع» في مجال الحريات والمشاركة السياسية، إنما هي في مهبّ احتمالين اثنين، هما: إما نشوب «اضطرابات داخلية»، أو بداية فصل جديد من «الربيع العربي». ويحضرنا هنا، ما نقلته مجلة «ناشونال إنترست» عن أحد المستشارين السابقين للبيت الأبيض في شؤون السياسة الخارجية، والذي رأى أنّ «الظروف التي أنتجت الربيع العربي قبل خمس سنوات لم تذهب بعيداً» ضمن دول المنظومة الخليجية، وهي ظروف «أكثر مدعاة للقلق في السعودية حالياً».
توتر مع طهران.. وفتور مع واشنطن: هل نفدت خيارات الرياض؟
على صعيد آخر، لا تبدو الرياض في صدد التراجع عن معركتها في سوق النفط، ضدّ إيران، وإن بدت المعركة في الآونة الأخيرة أقل صخباً مع تدخّل روسيا على «خطوط» لجم خسائر منتجي النفط، داخل وخارج «أوبك». ورغم ذلك، ثمة تحذيرات من التداعيات العكسية لما ترنو إليه الرياض في «حربها الهايدروكاربونية» عالية الكلفة على الاقتصاد العالمي، على غرار ما خلصت إليه مجلة «فورين بوليسي» حين اعتبرت أنّ هذا الانحدار الحاصل في أسعار النفط، قد يتمخّض عن «انتعاشٍ أكثر حدة» في الأسعار، ما يعني أنّ «الأسعار قد ترتفع إلى المستوى الذي سيدفع باتجاه ضخ استثمارات كبيرة في مجال التنقيب، وهو بالضبط ما يحاول السعوديون تجنبه أو إحباطه»، وفق المجلة الأميركية. الرياض، التي تخشى من أن تكون وجهة النفوذ والسيطرة اللتين مارستهما من داخل أروقة «منظمة أوبك» على أسواق النفط الخام على مدى السنوات الـ 40 الماضية تشهد تحولاً من الخليج إلى أميركا الشمالية والجنوبية، تبدو في أحسن الأحوال قادرة على تأخير هذا التحول، وليس تجنبه، كما أنّ إحدى مشكلاتها تتمثل في أنها تملك هواجساً من «الحليف الأميركي»، قد لا تختلف بالكم أو النوع عن تلك التي تؤرق ملوكها بدافع القلق من «الجيران الإيرانيين». ولعل قانون «جاستا» لا يحمل أخباراً سارة على صعيد العلاقات الأميركية السعودية، التي أضرّت بها بما يكفي استراتيجية الرئيس أوباما «الباسيفيكية»، وديبلوماسيته «النووية»، وعقيدته بشأن «القيادة من الخلف» في حروب الشرق الأوسط.
ومن منظور موقع ستراتفور، فإنّ دول الخليج تواجه عقبات مشتركة تتعلق بموازنة اعتمادها على عائدات الطاقة، والتعامل مع المعارضة السياسية، والتنافس مع إيران، وإن كان لكلّ منها «طريقة خاصة» في التعامل مع هذا القضايا.
ومن داخل السعودية، التي تعتزم إنشاء مكتب خاص لإدارة المشاريع بغية تشديد الرقابة على الإنفاق الحكومي، وإظهار المزيد من «الشفافية» في أدائها المالي، و»اللياقة البدنية» الاقتصادية، تواردت أنباء في الآونة الأخيرة بشأن إلغاء الرياض مشاريع تقدر بـ20 مليار دولار، وخفّض ميزانيات وزاراتها بمقدار الربع، مع تراجع صافي الأصول الأجنبية بنحو عشرة مليارات دولار شهرياً، وتسجيلها نسبة عجز في الموازنة قارب المئة مليار دولار في العام 2016. وعلى ما يبدو، فإنّ الاهتزاز الحاصل في «الهيبة المالية والاقتصادية» لـ «المملكة الثرية»، إسوة بالتردي الحاصل في «هيبتها السياسية»، يلعب دوراً حاسما في تسريع وتيرة التغيرات أو «الإصلاحات» التي يجري العمل عليها في قطاع الطاقة السعودي، وفي خلق تداعيات، وإن محدودة، على هيئة السياستين الداخلية والخارجية للمملكة.
وبطبيعة الحال، لا تبدو الرياض، في منأى عما يعانيه جيرانها من الدول المنتجة للنفط والغاز، بعد صدور تقرير اقتصادي دولي لحظ عجز موازنات دول مجلس التعاون الستّ والذي يُتوقع أن يصل إلى 153 مليار دولار مع نهاية هذا العام، مرتفعاً حوالى 35 مليار دولار، بالمقارنة مع العام الماضي، وهو حجم عجز تستحوذ المملكة وحدها على 55 في المئة منه، أي بما يوازي 84 مليار دولار، تليها كلّ من الكويت وقطر والإمارات التي خاضت غمار استحقاقات اقتصادية ومالية مشابهة.
حفلت الأشهر الأخيرة، بالدلالات حول عمق التحولات والتحديات التي تواجه السعودية. ففي مطلع الشهر الفائت، ذكرت وكالة أنباء «بلومبيرغ» أنّ قواعد الإقراض الأسهل والتدفقات النقدية المباشرة لم تفعل شيئاً لتخفيف النقص الحاد في السيولة ببنوك السعودية، التي أصبحت الآن في أسوأ حالاتها منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، مشدّدة على أنه في إمكان المملكة الشروع بدءاً من الآن في مرحلة جديدة من جهودها الرامية إلى ردع أسوأ أزمة سيولة بين مصارفها. وفي السياق ذاته، ذكر أحد التقارير المالية أنّ البنك المركزي المعروف باسم «مؤسسة النقد العربي السعودي»، أصدر قروضاً ميسّرة للبنوك المحلية بقيمة 15 مليار ريال سعودي أي ما يُعادل 4 مليارات دولار نهاية حزيران الماضي، في خطوة فريدة من نوعها في أقلّ من 6 أشهر، سمحت سلطات المصرف المركزي السعودي، بموجبها، للبنوك بالإقراض بنسبة أكبر من الودائع، وذلك من أجل تحفيز الاقتراض وتعزيز القطاع المالي. وفي خضم الضغوط المالية والاقتصادية المتعاظمة على الرياض، سحبت الحكومة السعودية، التي يقدّر حجم أصولها بنحو 22.26 تريليون ريال، بعض ودائعها، وباعت الدين بالعملة المحلية للبنوك لتمويل العجز في الموازنة.
ومن المعلوم أنّ الحكومة السعودية، وتحت وطأة ضغوط الأزمة المالية التي تعانيها جراء انخفاض أسعار النفط، تسعى إلى سدّ الثغرة في مواردها المالية بطرق مختلفة، لعلّ أبرزها يتمثّل بالإعلان «التاريخي» عن عزمها خصخصة شركة «أرامكو» من خلال العمل على بيع ما نسبته خمسة في المئة من أسهم الشركة، التي تحتل المرتبة الأولى بين شركات النفط العالمية من حيث إنتاج وتصدير النفط الخام وسوائل الغاز الطبيعي، وتتولى إدارة احتياطيات نفط تقدّر بنحو 261 مليار برميل، أي ما تزيد نسبته عن15 في المئة من الاحتياطيات العالمية. إلى جانب ذلك، عمدت السلطات السعودية إلى اللجوء إلى خطوات أخرى لتخفيف «أوجاعها المالية» عن طريق السعي إلى الاقتراض من الأسواق الدولية، والقيام بسحب الودائع وبيع السندات بالعملة المحلية للمقرضين في مزادات شهرية.
وإلى جانب خطط الخصخصة التي ترصدها «رؤية بن سلمان»، والتي سوف تشمل خصخصة قطاعات التعليم والصحة والدفاع، اللذين يستقطعان ما يقارب نصف الموازنة السعودية، تعبّر الخطة المذكورة عن طموح «الأمير الشاب»، للعب دور سياسي، أشارت مجلة «ذي إيكونوميست» مؤخراً إلى بعض فصوله وتفاصيله.
«رؤية بن سلمان» بين مطرقة «المحظورات الوهابية» وسندان «الضرورات الليبرالية»
في حين يرى البعض أنّ «رؤية» بن سلمان لـ «مملكة آل سعود» التي ترسّخت لبناتها التأسيسية على شراكة بين عائلة مؤسِّس الحكم وعائلة مؤسِّس المذهب، يمكن وصفها بالخطوة الإضافية على طريق التحول السعودي التدريجي من «سلطة تقليدية شبه قبلية» في مرحلة التأسيس إلى «دولة مركزية» في مرحلة التنظيم، منفصلة، ولو بصورة نسبية، عن تقاليد التأسيس والقوى التي ساهمت فيه، يرى آخرون أنّ ما يجري في كواليس المملكة يذكّر بمسار شبيه خاضت غماره في سبعينات القرن الماضي حين تسارعت وتيرة «ورشة الإصلاحات» القانونية والإدارية في الداخل السعودي، على وقع انفتاح الرياض على الخارج، من نواحٍ مختلفة، وما نجم عنه من «استيراد» منظومات قيمية وسلوكية وأساليب عيش غير مألوفة داخل مجتمعها المحافظ، وصولاً إلى مطلع الألفية الثالثة. وعلى الرغم من أنّ عائدات النفط الوفيرة ما بين عامي 1973 و1974، التي استثمرتها الرياض في سياسات توسعية في الانفاق على التعليم والخدمات الاجتماعية، وفي إجراء بعض التغييرات البنيوية والهيكلية المحدودة، بما يساعد على تشديد نفوذها الاجتماعي والاقتصادي، وإسكات معارضيها «الأيديولوجيين» والسياسيين في الداخل، لا سيما «المؤسسة الدينية التقليدية» عبر تمويل مشروعاتها على نحو يعزّز تبعيتها للدولة، قد خفّفت من آثار موجات النقد الذي تعرضت له السلطات السعودية من قبل بعض وجوه تلك المؤسسة، إلا أنّ حرب أفغانستان أواخر عقد السبعينات تكفّلت بتقديم ما وصفه البعض بـ «خط تفريغ» للاحتقان و»السجال الديني» الحاصل حينها، إذ احتلت تلك الحرب «مكانة محورية» في اهتمام «التيارات الدينية» وحوّلت الانتباه بعيداً عن الجدل الحاصل بشأن سياسات الأسرة السعودية الحاكمة. والجدير بالذكر أنّ تلك السياسات التي عكست في مرحلة ما، حقبة الدخول السريع والواسع للعولمة في المجتمعات الخليجية، وما رافقها من تحوّلات قيمية ومجتمعية، أحدثت اهتزازاً في «قدسية الماضي»، وفي موقع عوامل تقليدية داخل المشهد السعودي مثل القبيلة، و»الموروث الديني»، لا سيما على صعيد التحكّم في الحصيلة النهائية لتمظهر «النظام السياسي»، وأدواته القانونية والتشريعية المختلفة، الأمر الذي أحدث، بدوره، تغيرات في نظرة الأسرة الحاكمة السعودية إلى دور الدولة بوصفها الراعي الأوحد للاقتصاد، ولعلاقتها بالقطاع الخاص، وأمور أخرى متعدّدة، وهي المسألة التي تحمل في طياتها سياقات شبيهة بمجريات ومنطلقات «رؤية 2030»، باعتبارها، وفق محللين، تظهر انفتاح المملكة، ليس فقط أمام الاستثمار الأجنبي، بل أيضاً أمام الرأي العام العالمي، بل وتفاعلها معه أيضاً.
وكما بات معلوماً، فإنّ الظاهر «الليبرالي المعولم»، داخل المجتمعات الخليجية المحافظة، يحمل «تراثاً» من الصدام مع جوهر «الخصوصيات المحلية» أو ما يسمى «ثقافة التحريم» الرائجة في المجتمع السعودي، على وجه الخصوص، على غرار «الاشتباك الناعم» بين الحكومة السعودية وأنصار التيار الوهّابي المتشدّد، لا سيما أولئك من خارج المؤسسة التقليدية، في أكثر من مناسبة، وذلك على خلفية تسرب مظاهر «الحداثة الغربية» إلى الإدارة والاقتصاد في بلد، يحظى بخصوصية روحية بالغة لدى المسلمين، فضلاً عن موافقة الحكام على استضافة قوات أجنبية على أراضي المملكة بعد حرب الخليج مطلع تسعينات القرن الماضي.
واقع الأمر، أنّ المشهد يحفل بالمفارقات والمقارنات بين ماضي المملكة وحاضرها، على ضوء باع الممالك الخليجية «الريعية» الطويل في ما يوصف بـ «ترقيع المؤسسات السياسية الحديثة بحسب قواعد السلطة التقليدية الأساسية». وعلى غرار ما أدّته حرب أفغانستان، على صعيد صرف الأنظار عن توجهات الرياض نحو «عصرنة الدولة» التي ظهرت طلائعها خلال السبعينات، ثمة من يعتقد أنّ الحرب في اليمن، وتسعير الخلاف المذهبي مع طهران يشكل «غطاء أيديولوجياً مثالياً» لسياسات الرياض الداخلية والخارجية من أجل تحصينها في وجه «المد الجهادي»، وسحب «البساط» من تحت أقدام الجماعات المتطرفة، مثل «داعش» و»القاعدة» للاصطياد في «الماء العكر» لتلك السياسات. ومثلما كان عليه الحال في السابق، يتخوّف البعض من أن تكون الخطة الاقتصادية الطموحة لبن سلمان، الذي ينظر إليه على نحو متزايد بأنه يمثل تطلعات الجيل الناشئ، والتي تستهدف «تحديث» وإدخال المزيد من مزايا «اللبرلة» على الاقتصاد السعودي، حافزاً لشحذ سكاكين انتقادات رجال الدين لـ «رؤية» الرجل الثاني في «سلم الحكم» أو «ترتيب الخلافة»، والطامح للقفز إلى المرتبة الأولى حين تسنح الفرصة. في هذا السياق، ترى دراسة أعدها الخبير المتخصِّص في الشأن الخليجي، سايمون هندرسون، أنّ هناك جملة تحدّيات سياسية تلوح في الأفق، لعل أبرزها يتمثّل في طبقة رجال الأعمال السعوديين والتكنوقراطيين المستفيدة الرئيسية من «رؤية السعودية 2030»، وهي طبقة متعطشة للفرص التجارية. وتعتبر الدراسة الصادرة عن معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، أنه يتعيّن «على العائلة المالكة تحقيق التوازن بين تأثير نخبة الأعمال وبين سلطة «العلماء» ـ الهيئة الدينية التي تمنح الشرعية الدينية الضرورية لآل سعود»، منبّهة إلى معارضة بعض الشخصيات والأجنحة داخل العائلة المالكة لخطة «غورباتشوف السعودي». وبحسب بعض الصحف الغربية، يمكن القول إنّ أي امتيازات سوف يتم إعطاؤها لليبراليين، سيحصل المتشدّدون على امتيازات متوازية لها داخل المملكة التي تمثل شرعية آل سعود منذ إنشائها في العام 1932، علماً أنّ «أجندة» بن سلمان «الإصلاحية» تمثل خطوة راديكالية عما هو متعارف عليه.
بين الثورة والإصلاح.. السعودية إلى أين؟
في المحصلة، تتفاوت النظرة إلى «رؤية السعودية 2030»، التي تشمل خطوطها الاستراتيجية العريضة السعي إلى بناء قطاع صناعي وازن، وتحسين بيئة الاستثمار، والقوانين الضريبية، فضلاً عن تنمية صندوق الاستثمارات السيادية بعيداً عن «الإدمان النفطي»، إلى جانب تعزيز القطاع الخاص وتوفير فرص العمل، وتطوير جملة مشاريع ثقافية وترفيهية، مع مراعاة بعض الخصوصيات الدينية والمجتمعية. ومن جملة الانتقادات الموجهة لخطة الإصلاح الاقتصادي، هو تناقضها في بعض النواحي، لا سيما لجهة تطلعها إلى خفض الاعتماد على النفط، من جهة، وارتباطها الكبير بعملاق النفط السعودي، المتمثل بشركة «أرامكو»، من جهة أخرى، فيما يأخذ بعض الخبراء الاقتصاديين والماليين على «استراتيجية التنويع الاقتصادي» طموحها المبالغ فيه، وصعوبة تحقق أهدافها على المدى القصير المرصود. وفي حين تلفت صحيفة «الفاينانشال تايمز» البريطانية إلى المنحى الجدّي للإصلاحات المرتقبة في المملكة، وإن اتسم ببطء شديد، إلى جانب تأكيدها على مسألة إدراك الرياض «الحاجة الملحة للتغيير»، انطلاقا مما أجرته من تعديلات في فريق العمل والتشكيلة الحكومية، فإنّ صحيفة «واشنطن تايمز» الأميركية ترى أنّ التغييرات المرتقبة في السعودية، كما تطمح رؤية بن سلمان الاقتصادية، ستكون صعبة، لا سيما أنها تتطلّع إلى خفض نسبة الأجور في القطاع العام من واقع 45 في المئة من الميزانية العامّة السعودية حالياً، إلى ما نسبته 40 في المئة من الميزانية بحلول العام 2020، مع الإشارة إلى أنها قد تشكّل حافزاً لمعارضة شعبية عارمة، وذلك نظراً إلى التوقّعات المترتّبة على الخطّة، من ارتفاع معدّلات التضخّم، واستحداث سياسات ضريبية جديدة على نحو يزيد من الضرائب الحكومية، بما في ذلك ضريبة المبيعات، وضرائب الدخل على المقيمين من غير السعوديين. وبين هذا وذاك، تركّز صحيفة «واشنطن بوست»، من ناحيتها، على الجانب الاجتماعي من هذه «الرؤية الإصلاحية الشاملة»، متوقّفة عند جملة شواهد في المشهد الداخلي في المملكة الخليجية الكبرى، منها تقليص صلاحيات «الشرطة الدينية» المعروفة بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والتصويت التاريخي، ولأوّل مرّة، للنساء السعوديات في الانتخابات البلدية في كانون الأول الماضي، وهي شواهد على درجة عالية من الأهمية في سياق التشدّد المألوف والمعروف عن المجتمع السعودي، لا سيما أنّ «رؤية 2030» تطال مختلف جواب الحياة في مجتمع تعوّدت فيه العائلة الحاكمة، وفق ما وصفته الصحيفة بـ «مساومة المستبدين»، على فرض سياسات اجتماعية متشدّدة من أجل ضمان ولاء «المؤسّسة الدينية الوهابية». ولعلّ آخر ما خرج علينا به دينيس روس، والذي شغل منصب كبير مستشاري البيت الأبيض لشؤون الشرق الأوسط في الفترة 2009 ـ 2011، في مقال نشرته صحيفة «واشنطن بوست» حول وجود «ثورة» و»تحولات محورية» تأخذ مجراها داخل السعودية تحت رداء الإصلاح الاقتصادي، يلمح بشكل أو بآخر إلى حماسة بعض الدوائر الغربية بأن يترافق الجانب الاقتصادي من التغيير، مع جانب سياسي مواز، ولو بصخب أقلّ، مع العلم أنّ «التشابه القياسي» بين شخصية وظروف صعود نجل الرئيس المصري الأسبق جمال مبارك، ونجل العاهل السعودي الحالي محمد بن سلمان، يُحفِّز التصورات، وفق البعض، في التنبؤ بـ «ثورة مرتقبة» داخل مملكة تبلغ فيها نسبة البطالة نحو 11 في المئة وفق أقلّ التقديرات، ووسط مجتمع يحظى فيه استخدام مواقع ووسائط التواصل الاجتماعي بنسب نمو هي الأعلى في العالم، على نحو ينبىء بمسار شبيه بأحداث «الربيع العربي»، بنسخة خليجية هذه المرة.