من عزاء القاتل إلى مؤتمر فتح… ما العمل؟

عادل سمارة

نعم، متى يُصبح تخفيف النقد حكمة ثورية؟ ذلك لأنّ النقد شبيه بالعنف الثوري كما قال إنجلز: «العنف الثوري قابلة التاريخ». يُصبح هذا التأجيل/ التخفيف جميلاً، حين يصل النضال حافة الهاوية من جهة، وحين يتمكن من لم يعمل من وضع يده علانية على جهد من عملوا. إنها في العمل الوطني المقاوِم صورة شبيهة تماماً بقانون في الاقتصاد السياسي يشرح الرأسمالية بقوله: «هناك من يعمل ولا يملك ومن يملك ولا يعمل» بل ولم يعمل. فقط في هكذا حال يصبح الاصطفاف الدقيق موقفاً ثورياً إغفاله يورث الإدانة والندم.

قبل أن أدخل إلى الحالة الفلسطينية، أستذكر هنا كيف هوجمت كثيراً لوقوفي مع سورية، حين سُئلت في ندوة عن هروب بن علي من تونس:

إذا حصل هذا الحراك في سورية وإيران ما موقفك؟

قلت سأقف مع سورية وإيران لأنّ الهدف هناك لن يكون أبداً لأجل الحريات والإصلاح.

وكنت أنتقد سورية منذ 1975، ولكن حين صار الوطن مهدّداً، لم يعد هناك سوى خيار أن تكون وطنياً.

والآن، ماذا عن بعثرة الحالة الفلسطينية. صحيح أنّ الوطن مغتصباً. ولكننا نواجه حالة لا تقلّ عن اغتصاب الوطن. إنها حالة مسح أو محو تضحيات بل عذابات المقاومة على يد ما يمكنني تسميته، بالاقتصاد السياسي أيضاً، شركة متعدية/ متعددة الجنسية. وهي إحدى تمفصلات الثورة المضادة. إنها شركة معولمة تبدأ من البيت، من البلد، وصولاً إلى البيت الأبيض. ولو بدأت بالمعكوس، أيّ من البيت الأبيض لكان خطرها أقلّ.

ولكي لا أذهب عميقاً في ما مضى، فإنّ أكثر رصيد قُدِّم طوعاً لتقويض تاريخ وتراث المقاومة كان: اتفاق أوسلو… والانقسام.

«أوسلو» ووهم الدولة…!

فاتفاق أوسلو هو الذي خلق مناخ الانقسام والاستثمار فيه. كان ذلك الاتفاق مثابة تشغيل القوى الفلسطينية في وهم الدولة لإخراجها من رومانسية المقاومة. وعليه، فبقدر ما انخرط أيّ فصيل في أوسلو بغضّ النظر عن طريقة الانخراط، بقدر ما ساهم في التمهيد للانقسام وحصول الانقسام.

وإذا كانت قيادة حركة فتح هي صانعة اتفاقات أوسلو، فإنّ كلّ من شارك من حركة فتح في مؤسسات أوسلو هو من حاملي الذنب، وكلّ فصيل آخر شارك في مؤسسات أوسلو هو إما جزء من حركة فتح، أو شريك معها، بغضّ النظر عن عُلوّ الصوت ضدّ أوسلو هنا أو هناك فيكون الذنب مشتركاً…

فلم يكن في التاريخ أن قام قائد أو زعيم بإرغام شعب على موقف مصيري بقوة فرديته مهما كانت.

وهكذا، فقد قادت مغانم أوسلو إلى الانقسام ثلاثياً لا ثنائياً. فهناك فتح وهناك حماس وهناك الفصائل الأخرى التي بدل أن تأخذ موقفاً مبلوراً كلها أو بعضها بعيداً عن الانقساميين ربطت نفسها بهذا المعسكر أو ذاك، وإنْ بدرجات متفاوتة، بعضها لأنها قد دخلت مؤسسات أوسلو أساساً حتى لو تحت غطاء كونها في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.

من الانقسام إلى الاقتسام…

لقد طغت منذ أوسلو، على الأقلّ، على الفصائل الفلسطينية إيديولوجيا الاستدوال. فتحوّل كلّ فصيل إلى شبه دولة بعلاقات مع هذه الدولة او تلك إقليمياً ودولياً. وهي علاقات كان لا بدّ أن تنجم عنها ارتباطات، وتمويل ومن ثم ارتهانات. وللإنصاف، هذا أصاب بشكل رئيسي طرفي الانقسام الرئسيين فتح وحماس، مما فتح الباب للأنظمة العربية أن تتدخل في الحالة الفلسطينية بدور تخريبي بلا مواربة. هذا بعد أن كانت الأنظمة العربية، في الماضي، تتمنّى حيادية الفصائل الفلسطينية تجاه تلك الأنظمة.

ولعلّ ما شهدناه في الشهرين الأخيرين من تدخل فظ وأمري من أربع دول عربية في السلطة الفلسطينية هو نذير شؤم حقيقي، يقابله تدخل دولة عربية وأخرى إسلامية في سلطة غزة.

وعليه، فإنّ ما نحن فيه هو اقتسام هذه الأنظمة للحالة الفلسطينية. وهو اقتسام يختلف من حيث مصالح وارتباطات تلك الدول ويتفق من باب التطبيع التصفوي للقضية الفلسطينية أيّ لصالح الكيان الصهيوني. فالدول الست المتدخلة على علاقات حميمة مع الكيان الصهيوني الإشكنازي. وهي علاقة ليس الاعتراف بالكيان سوى شكلها الخارجي.

وهنا استذكر ما قاله مؤخراً الأستاذ خالد مشعل بأنّ حماس أدركت بأنها لا يمكنها شطب حركة فتح، وبأنّ تجربتها في القطاع أثبتت ذلك. ثم قول السيد اسماعيل رضون من حماس ايضاً، بانّ حماس لا تتدخل في الأنظمة العربية، وبأنها مستعدّة لتشكيل قيادة ميدانية موحدة للانتفاضة الحالية.

وإذا صحّ القول الآن بأنّ الحكمة ليست في القطع بأنّ الانقسام هو خطيئة هذا الطرف او ذاك، فإنّ الأصحّ منه الانتباه إلى أنّ الاقتسام جعل إنهاء الانقسام أبعد منالاً. وجعل التطبيع أوسع وأعمق انتشاراً. وعليه، فإنّ حكمة حماس أتت تماماً مثل «بومة منيرفا – إتيان الحكمة بعد فوات الأوان».

أما القيادة الميدانية الموحدة للانتفاضة، فربما هي شعار براق، كلما زاد بريقه طار تحقيقه. فإذا لم يتحقق الاتفاق السياسي لا يتحقق الاتفاق الميداني، ناهيك عن أنّ التنسيق الميداني هو الذي يجب ان يكون شديد السرية بل الأشدّ سرية. وحين يكون الاتفاق السياسي قد انتقل من الانقسام إلى الاقتسام، يصبح أيّ مستوى من التنسيق رهناً بقرار دول هي نفسها لا تحترم شعبها والأجدر بها الانشغال هناك. وفي هذه اللحظة تحديداً، ربما يصحّ ما يسمّى «القرار الوطني المستقلّ» لأنّ المناخ السياسي العربي مجافٍ جداً للقضية الفلسطينية.

إنّ الانتفاضة الشبابية الحالية هي على أهمّيتها تشكل المستوى المشتدّ من المقاومة، سواء بعناصرها المستلقة أو المنتظمة في هذا الفصيل أو ذاك.

وهذا يفتح على أهمية وضرورة المستوى الممتدّ من المقاومة كي يكتمل مستوَيَيْ المقاومة. وأقصد هنا المقاطعة ورفض التطبيع على الأقلّ في المستويات الممكنة. فالارتكاز والركون على المستوى المشتدّ أخذاً بالاعتبار محدوديته، هو وحده لا يكفي. بل يصبح هذا الركون مثابة غطاء لتبرير أنواع عديدة من التطبيع الطوعي والتفريغ.

ليس أبا مازن وحده!

نشهد اليوم موجة نقد لقيام رئيس السلطة الفلسطينية بالمشاركة في جنازة الصهيوني العدو بشخصه وانتمائه شمعون بيرس. وهي مشاركة مرفوضة بكلّ المعاني. ومن يتابع مواقف أبو مازن لن يجد هذه المشاركة خارجة عن سياقات مواقفه تجاه الكيان. صحيح أنّ مشاركة أبو مازن يمكن استغلالها أو استثمارها إعلامياً دولياً. ولكن، العودة للمفاوضات أكثر ضرراً من المشاركة في العزاء، لأنّ الخطورة القادمة في الأحياء أكثر مما هي في الأموات.

ولكن، لو وضعنا هذه المشاركة في سياقها الطبيعي، فإنّ كثيرين/ات يغطون أنفسهم تطبيعياً بمشاركة أبو مازن. ذلك لأن ليس أبو مازن وحده الذي يطبّع مع الكيان. ولو كان وحده كشخص ولو كرئيس، فلن يكون لذلك أثر ذي بال.

أعتقد أنّ هناك ثلاثة عوامل يجب ذكرها في ما يتعلق بالتطبيع سواء من أبو مازن أو غيره وهي:

في لقاءاته مع الحكام العرب، هل يدفعونه للتطبيع أم للمقاومة؟

وفي علاقاته مع قيادات من الفصائل داخل الأرض المحتلة، ورجال أعمال، وأكاديميين ومثقفين من الجنسين طبعاَ بل وكلّ من يستثمر/ يستفيد/ أيد/ شارك في اتفاقات أوسلو هل ينصحونه بالمقاطعة ورفض التطبيع؟

والأهمّ، هو الشارع الفلسطيني، حيث أنّ كثيراً من المواطنين يمارسون التطبيع، سواء لا مباشرة، بلا وعي سياسي أو بقرار وإصرار.

بكلام آخر، فإنّ من يتلطى وراء الارتكاز فقط على النضال المشتدّ، ولا يمارس النضال الممتدّ، إنما هو مع التطبيع.

لقد لفتت نظري مقالات وكتابات وشتائم إلخ… ضدّ التعزية من أشخاص شاركوا في جولات مدريد العشرة 1991 -1993، وفي مفاوضات أوسلو ووافقوا على أوسلو واستفادوا من أوسلو، وها هم اليوم يزايدون وينتقدون!

يمكن للمرء قبول النقد والرفض الشعبي من هذه المشاركة في التعزية لأنها تشكل حالة نافرة وحادة. ولكن ما لا يمكن قبوله هو المزايدة ممّن استفادوا من التسوية والتطبيع ليختبئوا وراء التغني بالانتفاضة الشابة ونقد مشاركة أبو مازن في التعزية!

هذا السلوك يذكرني بالمعكوس بما كان يُقال عن الملك حسين في الأردن: «الملك مليح لكن يضغط عليه الذين حوله» وكأننا هنا أمام قول: «أبو مازن مطبّع لكن من حوله بل كلّ الناس ضدّ التطبيع». ولكن، هل يمكن لرجل أن يرغم شعباً على ما يريده بشخصه؟

هذا التطبيع الممتدّ من عضوية الكنيست منذ عام 1948، عبوراً إلى كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، وصولاً إلى صرخة من الأعماق وتفكير جديد في القضية وفلسطين جديدة إلخ… هو الذي ولَّد كتابي: «التطبيع يسري في دمك». لقد وصلنا إلى حالة عجيبة من تفكيك المشروع الوطني.

مشروع سلطة رام الله هو المفاوضات في موقف مفترق عن نضال الانتفاضة.

مشروع سلطة غزة التحالف التابع لقطر وتركيا في موقف مفترق عن المقاتلين.

بقية القوى ضدّ التطبيع ومع المقاومة، ولكن دون شغل ملموس لا في المقاومة المشتدة ولا الممتدّة.

ظهور أدران سياسية ثقافوية أكاديمية مشروعها لا مفاوضة ولا مقاومة بل اندماج طوعي تعايشي مع الكيان الصهيوني فوراً، ايّ في حالة عشق صوفي. وهذه مدرسة تبدأ متعدّدة: التفكير الجديد، فلسطين الجديدة، صرخة من الأعماق من لفيف فلسطين، مؤسسات الأنجزة المتتركة مع العدو، الدولة الديمقراطية الواحدة، والعلمانية الواحدة وثنائية القومية إلخ… وهذه جميعاً تعني أمراً واحداً، أن إقبلونا ايها الصهاينة فنحن في جاهزية لما تُملون.

أيّ انّ هذا الاتجاه هو الأشدّ خطراً، وهو لا شك يحظى بدعم دولي وإقليمي وصهيوني معاً شاء فريقه وفهم أم لا.

وهذا ينقلنا إلى القضية الأخيرة في هذه المقالة.

… وماذا عن فتح؟

أين تقف حركة فتح من هذه الصورة أو المشهد الفلسطيني؟ وما الذي ينتظرها على ضوء الواقع العربي الذي يقتسمنا؟ وعلى ضوء التنافس بينها وبين حماس؟ بل وحتى على ضوء أهداف وتسمين فريق الاستسلام حتى بلا مفاوضات؟

قريباً سيكون لحركة فتح مؤتمرها. وستذهب هناك فتح بحالها المتعدد حتى التناقض: فتح السلطة، وفتح التنظيم، وفتح ضدّ التسوية، وفتح مع التطبيع، وفتح الفساد والثراء، وفتح المؤبدات، وفتح المقاومة، وفتح مع هذا النظام، وفتح مع ذاك النظام، وفتح أميركا إلخ…

هذا الحال الفتحاوي لا يسرّ عدواً ولا صديقاً. وهذا الحال تحديداً هو ما فتح الطريق أكثر من غيره، للتطاول على كلّ المقاومة وتاريخها وتضحياتها. أقول التطاول وليس النقد. لأنّ هدف التطاول هو تفريغ تاريخ المقاومة من محتواه وصولاً إلى إعلان وجوب الاستسلام بلا قيد ولا شرط للعدو.

قد يعتقد بعض قادة فتح الذين لهم حظوة عند هذه الدولة او تلك بأنهم معصومون إذا ما تفككت فتح. وقد يعتقد المطبّعون مع الكيان بانّ مواقعهم محصّنة. بل حتى من أثروا قد يعتقدون بأنّ ما لديهم هو ملكية خاصة.

وأعتقد انّ هؤلاء على خطأ، فهناك اليوم من هم أقرب إلى من يديرون الاقتسام وأقرب إلى الكيان والإمبريالية من كلّ هؤلاء.

وأعتقد، من خارج فتح، ومع نقدي الشديد لكلّ فتحاوي وغير فتحاوي غير مقاوم، أعتقد انّ تفكيك فتح سينتج فوضى على مستوى كلّ الفلسطينيين في الوطن المحتلّ بشقيه 48 و 67 والشتاتين العربي والدولي. بل أعتقد انّ عدم تفكيك فتح ربما يسمح للعناصر المقاومة فيها بتأثير أقوى في المرحلة المقبلة، لأنها مرحلة استحقاقات خطرة لن يصمد أمامها سوى المخلصين.

من جهة أخرى، فإنّ عدم تفكك فتح، يمكن ان يسمح بشكل تأطيري ما للعناصر المقاومة من مختلف القوى، وهذا ما لم يحصل بعد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى