مختصر مفيد أميركا مملكة الذهب
تحتفظ الأمم بمنظومة قيم وطباع جماعية وأساليب تفكير تستمدّها من تاريخ تشكّلها ومناخات الطبيعة التي تحيط بحياتها ونوعية المهن التي أتقنها الأجداد المؤسّسون، ولذلك يُقال إنّ في الدبلوماسية الإيرانية التفاوضية طباع صانع السجاد مرة وتاجر البازار مرة لتوصيف درجة الصبر والمهارة. ويُقال إن في المحارب الأميركي طباع راعي البقر مرة للدلالة على عدم الرحمة وفي المفاوض الأميركي طباع لاعب البوكر تأشيراً على روح المغامرة. كما يُقال الدب الروسي دلالة على بطء حركة السياسة الروسية ولكن ثباتها وخطورة التصادم معها. وغالباً ما تستعيد الأمم هذه المنظومة الجمعية للتفكير في مراحل الأزمات، أكثر من حضورها في مراحل الرفاه والازدهار، حيث يصير ثمة مكان لترف البحث عن معادلات لتسويق السياسات بما يلبسها أثواباً تتسم بالرقي والحضارة وملاقاة شعارات كبرى، بينما تُجبرها الأزمات على الظهور عارية بطريقة تفكيرها، حيث لا مجال لترف الزينة.
ما يطبع السياسات الأميركية في هذه المرحلة يربك الكثير من المحللين، فلغة الحرب والتصعيد في سورية والقطيعة مع روسيا، تأتيان بعد جهود للتفاهم برّره وتسبّب به العجز عن المضيّ في سياسات الحرب، التي صُرف النظر عنها رغم ورودها في ظروف أشدّ مؤاتاة من ظروف اليوم، فيظهر التصعيد مجرد عذر للتفلت من التفاهمات، ويفسّر المشهد أكثر ما أظهرته روسيا على السطح من تفاهمات تريد واشنطن التفلت منها، ومحورها التقيّد بضوابط قاسية تخفض إنتاج الصواريخ النووية الثقيلة، ولا يُخفى السبب ولا سبب حماس البنتاغون لنيات التفلت بغير دواعي التطرف والتصعيد، بل بنيات ترك الباب مفتوحاً لأرباح شركات صناعات السلاح التي تحكم البنتاغون وغيره من مؤسسات السياسة الأميركية.
يدور التنافس الانتخابي الرئاسي الأميركي وتدار مناظراته، ويبدو أنّ السياسة الخارجية دون مستوى مناقشة أفكار واستراتيجيات، فتصير أطروحة المرشح الجمهوري المفترض أنه رمز التطرف وممثل الصقور محصورة بإعادة النظر بالاتفاقيات الخارجية بحثاً عن المزيد من المال علناً، فيدعو لتعديل قواعد التسهيلات الممنوحة لدخول البضائع الأجنبية إلى أميركا وهجرة الشركات الأميركية إلى الخارج، وإلى فرض بدل مالي على اليابان والخليج ودول الأطلسي لقاء الحماية العسكرية.
يخرج قانون جاستا إلى النور ويقوم على مقاضاة السعودية، خصوصاً من ضحايا أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، ويسقط الفيتو الرئاسي في تجميده، ويصوّت شبه إجماع في مجلسي النواب والشيوخ لصالح القانون، ويسانده المرشحان الرئاسيان، ويصير وضع اليد على أموال الغير سياسة، فتبدو أميركا في كلّ ذلك وقد عادت مئتي سنة إلى الوراء بتقاليد وقيم مملكة الذهب والمناجم وحروبها وقوانينها.
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.