بين الفلسفة والجهل «الداعشيّ»
كتب نذير الماجد
لم الاستغراب؟ يعرف التطرف كيف يضمن لنفسه الخلود، كيف يتموضع في سيرورة أزلية، سيرورة لا تنتهي من التطرف، تكتب حكايتها «كتب صفراء» تتناسل باستمرار. إنه التعليم، تلك الأداة السحرية، التي يتعكز عليها التطرّف لتعميم نفسه.
قبل أيام، أصدرت «مديرية المناهج» التابعة لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» داعش تعليماتها حول «المنهاج الدراسي الجديد»، تضمنت – بحسب ما نشرته وسائل الإعلام – إلغاء مواد التربية الفنية والموسيقية والتربية الوطنية والتربية الاجتماعية والتاريخ والتربية الفنية والتشكيلية والرياضية وقضايا فلسفية واجتماعية والتربية الدينية الإسلامية والتربية الدينية المسيحية… إلى آخر القائمة التي لا تبقي ولا تذر! إذ يجب أن تنسجم السياسات التربوية والمناهج الدراسية مع أيدولوجيا السلطة الجديدة وقيمها، أي «داعش» وتصوراتها المنبعثة من «كتبها الصفراء».
عدا عن أوامرها بتنقيح كل المناهج الدارسية من جميع الشوائب و»الكفريات» السياسية والاجتماعية مثل المواطنة أو القومية أو الانتماء الوطني، فالانتماء إلى الإسلام وحده، الذي يتم العبث به ليلائم مقاسات داعش بتقليصه إلى تطرف رجعي، يطول المقص «الداعشي» أشد العلوم حصانة ومناعة ليعبث بها كيما توافق تصوراته الظلامية، فبعد اقتلاع العلوم الإنسانية والفنون والفلسفة وشطبها بالكامل، لما تحمله من نوازع جدلية تفتك بصفاء العقيدة وتثير البلبلة والفتنة، ينزع التطرف إلى التخفيف من غلوائه الراديكالي، نحو التحلي بقدر توفيقي وإصلاحي يسمح له بتمرير العلوم الطبيعية لكن بعد تشذيبها من الزوائد الداروينية، «وكثّر الله خيرهم»! فيما قد تثير هذه الاجراءات التطهيرية في التعليم لدى البعض ابتسامة كئيبة تضج مرارة وسخرية أمام صورة تسودها مناخات الكوميديا السوداء، فالإجهاز على الفلسفة والإنسانيات وتشذيب العلوم الطبيعية ليسا سوى تدوير للجهالة نفسها، وسيثيران لدى آخرين ضحكات ظافرة، فهذه النبتة «الداعشية» من تلك الحديقة التي تحوطها أسيجة تحول دون تسلل الوافد الفلسفي وميوعة الفن.
هنا تحديداً، حيث يقوم التطرف بمهمته التاريخية لتقطيع أوصال العلوم والمعرفة وتفصيلها وفق الشهية الأصولية والإجهاز كاملا على الفلسفة، ليس ثمة خلاف أبداً. «وافق شن طبقة»، ما من خلاف حول تديين العلوم واستبعاد الفلسفة. الخلاف فحسب حول الطبيعة السياسية، أما في الجوهر فهناك من التماهيات بحيث تبدو التعليمات «الداعشية» الغارقة في ظلاميتها مألوفة وليس فيها ما يثير الدهشة.
لم الاستغراب؟ ألسنا ننفر من الفلسفة ونمقتها ونزدريها؟ أليست بنية التفكير «الداعشية» حصيلة تاريخ كامل من ازدراء الفلسفة؟
إن السياسة التعليمية «الداعشية» تجد أصلها في أروقة مجتمعنا، في تاريخه الممتد مذ أغلقت الفلسفة مدارسها وغادرت العالم الإسلامي بل رجعة، مذ أقيمت تلك الجدران التي تحاصر العقل وحريته واضعة ألف حاجز أمام التفكير بترسانة ضخمة من الإجراءات والأحكام القانونية التي لا تقف عند تجريم السؤال برسم الردة والارتداد، بل تقيم تمفصلا حادا في عالم الكتب تحت مسمى «كتب الضلال» كذاك الذي يسود عالم اللاهوت والعقيدة بين القداسة والحرمة والرجس والضلال، بحيث تقع المكتبة ذاتها في قلب الاستقطاب بين الكفر والإيمان، بين العقيدة «الأرثوذكسية» والفلسفة، كأن الأمة بجميع طوائفها وبعد تلك التشظيات كلّها تعود لتتفق على شيء واحد فحسب: نبذ الفلسفة.
ما تخشاه «الأمة» المنكوبة بـ»داعش» ومن دار في فلكها هو التقويض ولا شيء سواه. للفلسفة وحدها القدرة على تفكيك العقل الوثوقي، وهي وحدها القادرة على إنقاذه من سباته، من نومه الأزلي الذي تسرح فيه الخرافة «الداعشية». الفلسفة هي وحدها الكفيلة بأن تمنحنا رؤية بانورامية، أن ننظر إلى الواقع بكليته، للتاريخ بجنونه وتشظياته وسيرورته التي لا تخضع لأهواء الاعتقادات الأرثوذكسية، للإسلام نفسه وقد تصالح مع واقعه المفتت والذي لا يكف عن تشظيه وانشطاره إلى طوائف ومذاهب وأفكار وتيارات وتأويلات، الفلسفة وحدها هي التي تشفينا من سرطان الكراهية والإقصاء. وحدها الفلسفة تمنحنا القدرة على التواضع والحذر المعرفي وشهية البحث وصوغ الأسئلة والإشكالات عوض تلك الأجوبة النهائية والطمأنينة السكونية التي أنتجت بامتزاجها بأرثوذكسية موغلة في نرسيسيّتها، ما نلمسه اليوم من ردة وتقهقر وجهالة «داعشية».
لكن ما لا تخشاه الأمة هو التوفيق والعلوم الطبيعية، فالأخيرة – في أية حال – ذات طبيعة مسالمة، خاصة في شقها التطبيقي، إذ يمكن أن تتعايش مع أشد العقول تخلفاً. العلوم الطبيعية ملائمة تماماً لنزوع توفيقي «تلفيقي» لأمة لا تريد أن تتغير، لا تريد أن تكون إلاّ ذاتها، لأمة بلا تاريخ، أمة قابعة مكانها وراء الكهف الأفلاطوني، أمة وراء الظلال أو فوقها.
في إمكان الماضي هنا أن يتعايش مع الحاضر، أن يكون معاصراً بالعلوم الطبيعية والدقيقة وحدها، من دون ازعاج الانسانيات والفلسفة. لك أن تكون أصولياً وطبيباً في الآن نفسه، لكن هل سمعتم أحداً يتعاطى الفلسفة من دون أن تتزحزح قناعاته قيد أنملة منذ أن ولدته أمه؟ الفلسفة أداة للتخريب، لإعطاء النشء مفتاح السفر خارج الحديقة السلفية والأصولية، لذا يتوجب استبعادها تماماً من التعليم حفاظاً على طلابنا الصغار!
للفلسلفة جموح يهز القناعة والأجوبة ويرعب «الدواعش»!
تقول لنا الفلسفة إنها تهتم بالكليات، فيما تهتم العلوم الطبيعية بالجزيئات فحسب، لذا لا نستغرب احتضانها «الداعشي»، بخلاف الفلسفة التي هي محض مشاغبة ذات طبيعة «موسوعية»، ما يعني أنها تتناسب وحدها مع شمولية الإنسان بكامل أبعاده، فهي وحدها الكفيلة باستعادة الإنسان لذاته، إذ تمنحه تكويناً موسوعياً منسجماً مع تعدديته الباطنية، تشبع نهمه الروحي وتفجر داخله عاصفة من الأفكار والاحتمالات والافتراضات والأحكام التي تنسف بعضها بعضاً، لتهبه بالتالي مهارة النقد والتمحيص، لمساءلة الأشياء كلها، بما فيها عقيدة الأسلاف.