أعاصير النار في حلب… وذوبان الستائر الحديدية
نارام سرجون
يكاد يكون الظلام سائلاً أسود نعصره من الليل ويسكب في العيون والقلوب التي تضيء وتشعّ بالنور، فتنطفئ. ويكاد النور أن يكون سائلاً ضوئياً كما عصير النار وكما زيت الشمس الذي يسيل منها، عندما تعصر بين يديّ الفجر كالبرتقالة، فينسكب في العيون لتتوهّج وتضيء من زيتها القلوب. ولكن، ماذا يفيدني لو قطّرت كلّ زيت النجوم في مقلتي وعصرت كلّ الشموس في أحداقي، إذا كنت لا أبصر، وكان قلبي يضخّ الليل في عروقي؟
ولذلك قال المتنبي يوماً:
وما انتفاع أخي الدنيا بناظره
إذا استوتْ عنده الأنوار والظُلَم!
من العجيب أن أكثر ما يذكرني بالمتنبي، مقابلات الإعلام الغربي مع الرئيس الأسد في شأن حلب. فلن تبصر عين الغرب العمياء، لأن المقابلات التي يجريها الإعلام الغربي مع الأسد بذريعة أن هذا الإعلام يبحث عن الحقيقة ليقدّمها إلى المتلقّي الغربي، تشبه الظلام الأسود الذائب الذي يُسكب في العيون والقلوب ليطفئها. فلا غاية من تلك المقابلات إلا الترويج للدعاية السوداء الغربية بأن هناك جرائم في حلب، وأنّ هناك متّهمين وعلى رأسهم الحكومة السورية لأنّ تلك المقابلات تدلّ على أن المقصود بها، إبقاء المشاهد الغربي في حيرة وظلام من دون أن تسمح له بأن يزيح الأربطة والعصائب السميكة التي تغطّي عينيه. وعملية إغراق العقل والعيون تطلق دوماً كلماً أحسّت النخب الحاكمة الغربية أنّ المواطن الأوروبي يتحرّك ليزيح العصائب السميكة، وهو يشكّك في ما يسمع فيحاول التخلّص من الظلام. لكن الإعلام الغربي يلاقيه ويسكب مزيداً من الظلام في عينيه وعقله فينطفئ أيّ شعاع، وتستوي عنده الأنوار والظلمات كما يقول المتنبي، ويصبح كمن يعيش محاصراً بالستائر الحديدية.
والستارة الحديدية مصطلح اخترعته مارغريت تاتشر التي أطلق عليها الإعلام البريطاني لقب «المرأة الحديدية»، أما الستارة الحديدية فإنها ما كانت تردّده وتتحدّث به عن ستارة من الغموض والظلام مفروضة على الشعوب السوفياتية الحبيسة داخل أسوار القلعة الشيوعية الرهيبة، التي لا يستطيع الغرب اقتحامها ومعرفة الأهوال التي يتعرض لها الناس خلف الستائر الحديدية للرفاق الشيوعيين حول معسكر وارسو. لم تفوّت تاتشر فرصة عندما كانت تعلّق على أحداث وتقارير عمّا يحدث داخل الاتحاد السوفياتي إلّا ونوّهت أنها لا تستطيع إثبات أيّ شيء يشاع بسبب الستارة الحديدية الشيوعية التي لا يمرّ منها هواء ولا تعبرها إليه الحرية، لا بلّ حتى الطيور المهاجرة لا تعرف ماذا يدور هناك، فيما العالم الليبرالي الحرّ ينطلق تحت الشمس ولا يعرف حدوداً للحرّية. وبالطبع ردّد العالم كالببغاء وراءها عبارة «الستارة الحديدية» حتى سقط الاتحاد السوفياتي وستائره الحديدية.
ولكن ما لم يعرفه العالم أن الستائر الحديدية لم تسقط على الإطلاق، لأن الحقيقة المذهلة هي أن من يعيش خلف الستائر الحديدية، الشعوب الغربية نفسها، وبالذات الشعب الذي يضع تمثالاً حديدياً للحرّية و«هي» ترفع شعلة الحرّية، أي الولايات المتحدة الأميركية. الفارق بين الستارتين على ضفتَي أوروبا، أنّ الأول شيوعي كان يمنع خروج المعلومات عبر تصفيح الأفواه، أما الثاني فإنه يمنع دخولها إليه عبر تصفيح الأدمغة.
العقل الغربي مثلاً مصفّح ليقدّس ما فعله الحلفاء في الحرب العالمية الثانية حتى صار قصف هيروشيما مقبولاً، لأنه وفّر سقوط مزيد من الضحايا بإنهاء الحرب بسرعة وفق الشرح الذي تقدّمه الدعاية الغربية. وإذا اتهمت الطائرات الغربية أو «الإسرائيلية» بارتكاب مجازر وقصف مدن مأهولة في أفغانستان أو العراق أو لبنان وقضى فيها مئات المدنيين، يثب إليك أحد المفكّرين ويقول لك: «ولكن الحلفاء فعلوا ذلك في الحرب العالمية الثانية بالمدن الألمانية لينتصروا على النازية»، وكأن كلّ ما فعله الحلفاء في الحرب العالمية الثانية يجب عدم التشكيك في أنه الحلّ المثاليّ المقدس.
وكما تعلمون، فإن ستائر الشيوعيين الحديدية سقطت في حين أن ستائر الحديد المنسدلة على العقل الغربي في سياق عملية التصفيح مستمرّة عبر ماكينات الإعلام الغربي. والدليل على ذلك، اللقاء الأخير الذي أجرته «آسوشيتد برس» مع الرئيس الأسد، ثم اللقاء الذي أجرته قناة دنماركية، والذي كانت الغاية منه في كلتا الحالتين في الحقيقة، إعادة تصفيح العقل الغربي بالأفكار المسبقة المصنّعة وإعادة إنتاج الرئيس الأسد وتنميطه على أنه الرئيس الذي يحاصر المدنيين والجياع ولا يزال يستعمل البراميل المتفجّرة وهو ينكر ذلك، لا بل الترويج للخوذات البيضاء الملائكية التي ترتديها «جبهة النصرة» أمام الكاميرات، وتحاول هذه اللقاءات وضع دروع بشرية ووضع متاريس من الأطفال والنساء والدروع الفولاذية أمام الجيش السوري لتحمي بهم «جبهة النصرة»
والغريب، أنّ معظم اللقاءات مع الإعلام الغربي تكرّر الأسئلة نفسها تقريباً في كلّ المقابلات تقريباً، حتى أن الرئيس صار حائراً ويكرّر الأجوبة ذاتها، وكأن العالم لا يسمع ما نقول في كلّ مرّة، أو أنّ العالم يصرّ على توجيه الاتهام وإرغامنا على الاعتراف بجرم لم نقم به. وكأن الدنماركي أو الفرنسي الذي يستمع إلى هذه المقابلات لا يهمّه من كلّ ما يجري في سورية إلا معركة شرق حلب وسياسة التجويع والحصار، ونسي الجميع حصار غزّة الأطول في تاريخ البشرية، وصار حصار حلب يمثّل حصار طروادة التي يدافع عنها هكتور العصر «أبو محمد الجولاني» ضدّ جيش أغاممنون، وهو يلتقي مع الأميركي في الهم والقلق ذاتهما عن المحاصرين والمدنيين الأبرياء وعن الكارثة السورية ومدى إحساس الرئيس بالكارثة التي ألحقها حكمه بالشعب السوري. في حين أن الأسئلة التي تسأل عن الحقيقة مغيبة تماماً، والتي تسأل الرئيس عن عدد الضحايا المدنيين الذين قتلهم الإرهاب وعن دير الزور المحاصرة وكفريا والفوعة، وكيف تتعامل الدولة مع المدن التي تحاصرها القطعان الإرهابية، وكيف تواجه الحكومة السورية الضغط الهائل من انقطاع النفط والغاز والماء والكهرباء عن ملايين الناس والذي هو دوماً بسبب استهداف «الثوار» «الجياع» محطات الطاقة والمياه، وعمّا فعله الإرهاب «الثوري» بكل قطاعات الشعب، وأيّ نوع من السلاح الفتاك والحديث الذي استعمل من قبل مجموعات مدرّبة تواجه بشراسة الجيوش والطائرات، وعن مصدر صواريخ «تاو» وأجهزة التشويش الإلكتروني وتقنيات الاتصالات العسكرية العالية… ووو.
كلّ هذه المقابلات لا يراد منها إلا زيادة تصفيح العقل الغربي عبر إعادة تدوير المصطلحات والاتهامات نفسها، وعدم السماح له بالخروج ليتنفس الهواء الطلق. ومن يستمع إلى المقابلات نجد أنها تعيد الأسئلة نفسها بصيغ مختلفة بحيث أن من يستمع في كلّ مرّة إلى المقابلات، يعتقد أنّ قسوة المعاناة الإنسانية هي التي تدعو إلى تكرار النداء للأسد بتخفيف قبضته عن المحاصرين. والأنكى من ذلك أنّ السؤال دوماً مدجّج بشهود العيان الذين لا نعرفهم أو الذين نعرف أنهم شهود عيان صناعيون وممثلون متقنون أدوارهم، لأن تصفيح الرأي العام يحتاج إلى صناعة مشاهد متقنة وممثلين محترفين، ويستشهد أيّ سؤال بتقارير الأمم المتحدة ولجان حقوق الإنسان التي لا يأتيها الباطل من فوقها أو تحتها أو من يمينها أو شمالها، وهذه التقارير الأممية في العقل الغربي مقدّسات لا تُمسّ ولا تُنكر، ومسلّمات لا يمكن دحضها أن لها سمعة الحيادية جداً أو كما يطلق عليها معتدلة على غرار «المعارضة السورية المعتدلة»! فالعقل الغربي مصفح ببديهيات شهادات شهود عيان وتم تصفيحه بفكرة أن الأمم المتحدة منظمة دولية محايدة بريئة خصوصاً القبعات البيضاء وهي ملك للعالم كلّه ولا يمكن أن تنحاز ضدّ أحد، وكذلك لجان حقوق الإنسان و«أطباء بلا حدود» وصور «يوتيوب»… إلخ. ويصبح رفض هذه التقارير يحتاج إلى براهين بلانهاية عن مدى اختراقها بالمؤثرات الاستخبارية والأصابع السياسية الغربية، بل أن عملية التشكيك بها تشبه عملية التشكيك بالله لمن يؤمن بالله، لأن المستمع الغربي يبقى في ذهنه أن هناك شهود عيان وهناك تقارير أمم متحدة، وغير ذلك ليس إلا إنكاراً بلا جدوى.
القول إن الشعوب الغربية تتعرّض لعملية غسيل دماغ ليس دقيقاً، لأن الدماغ الغربي لا يحتاج إلى غسيل، إذ إنّ المعلومات التي تدخله هي التي تغسل قبل دخولها إليه بماء الظلام الأسود ثم يتم تصفيحها. فغسيل الدماغ يعني أن الدماغ تعرّض للتلوث بإشعاعات الإشاعات والملوّثات الفكرية، ويتلاقح مع الأفكار الأخرى وينتج عقلاً هجيناً متفاعلاً، والغرب كان أذكى من أن يجري عمليات منع تدفّق للمعلومات، لكن المعلومات المتدفّقة تتعرّض لعمليات فلترة وتنقية وتحوير، ويستحيل أن تصل المعلومة كما هي، بل تحاط بالمشمّع السميك العازل من التشكيك والمزاعم المناقضة واتهامات بضعف الأدلة، وهذه كلّها تساهم في تصفيح الدماغ وتدريعه بحيث أنك إن حاولت غسيل دماغ الغربي لن تتمكن لأنه عقل مصفح بمعلومات كاذبة ومشوّهة، ويشبه مدرّعة صغيرة لا تخترقها القواذف العادية، وهذا يؤدّي إلى نتيجة أن العقل الغربي حرّ في أن يناقش أيّ قضية، إلا أنه عاجز عن الخروج خارج الدرع والعقل المصفح، فتبقى أيّ قضية يناقشها خارج حدود الإدراك. فهو يراها ولكنه لا يحسّ بها. فالبريطاني عبارة عن محطة «بي بي سي» صغيرة متنقلة تبثّ تردّدات محطة «بي بي سي». وكذلك الأميركي هو محطة «سي إن إن» أو «سي بي إس»، متنقلة، وعندما تناقش غربياً تجد أن عليك إجراء عملية خرق درع دماغي صلد للوصول إلى عقله وأنت تذيب منه ركام الـ«بي بي سي» والـ«سي إن إن» وآلاف الصور والأحاديث، حتى ترثي لحاله وهو تحت الستائر الحديدية ومنوّم مغناطيسياً.
المهم أننا نعرف كيف يفكر هذا العالم وهذا مهم جداً، ولكن العالم لا يعرف كيف صرنا نفكر، وكيف صرنا لا نبالي بكلّ نماذج الستائر الحديدية وقياساتها وألوانها، وكيف تزداد ثقتنا بأنفسنا، وأننا لن نكترث بجهل هذا العالم وستائره الحديدية. وكلما سكب الظلام زيته الأسود سكبنا في عينه الضوء كما سكبنا حروفنا في عروق اللغة. لا بل أن على العالم أن يدرك أننا في هذه الحرب صرنا نعصر الرصاص لنشرب عصير النصر، ونرشّ عليه البارود لتصبح نكهته أحلى، وصرنا نعصر النار في حلب كما نعصر العنب، ونسكب ماء الضوء في كؤوسنا وقلوبنا وعيوننا، لا تهمّنا ستائر الحديد لأننا سنذيبها في حلب، ولا تعنينا مزارع الليل الأسود في عيون العالم، طالما أن عيوننا يفيض منها الضوء، وأنّ عروقنا يملؤها اللهب، ويملؤها عصير الرصاص، وعصير النار وأعاصير النار في حلب، حلب الحرة، قريباً، رغماً عن أنف العالم كله.