إما دولة القانون أو دولة العصبيات
د. عدنان منصور
في كلّ مرة تلقي فيها أجهزة الأمن، القبض على مشبوهين للتحقيق معهم، لارتباطهم بأعمال إرهابية او تجسّسية من قريب أو بعيد، تطال الأمن القومي للبنان، وتهدّد استقراره وسيادته وسلامه، تنبري فجأة العصبية للبعض، تحرّكها نعرة طائفية بغيضة قبيحة، لتظريف قاتل مجرم إرهابي عابث بالوطن وشعبه، دون وازع أو ضمير، تجرَّدَ من إنسانيته ووطنيته ليرتمي في أحضان العمالة والخيانة والتطرف والإرهاب. وبعد ذلك نجد من تثور «نخوته» و»عصبيته» لتبرئة هذا النوع من القتلة والإرهابيين قبل إصدار حكم القضاء العادل بحق هؤلاء، متجاوزين الدولة والقانون والقضاء والأصول والصلاحيات، ليدلوا بحكمهم ومواقفهم قبل انتهاء التحقيقات، يحتجّون على السلطات القضائية والأمنية، ويحمّلونها المسؤولية عن توقيف مَن تُوقفه، وكأنّ الدولة وأجهزتها المؤتمنة على أمن واستقرار الوطن وسلامة المواطن، ارتكبت جريمة بحق مَن أوقفته أو مَن توقفه. لأنّ العصبية للبعض تعتبر أنّ مَن توقفه الأجهزة الأمنية والقضائية والعسكرية، يمسّ بالصميم كيان طائفة بأكملها. ولذلك يتحرك هذا البعض ضدّ الدولة وإجراءاتها وتحقيقاتها وتوقيفها للقتلة والمجرمين والإرهابيين، وإن كان هذا التحرك على حساب الوطن والأمن وسيادة القانون والاستقرار وحماية المواطن.
القاتل قاتل، والمجرم مجرم، والخائن خائن، والإرهابي إرهابي، أيّاً كان دينه أو كانت طائفته أو مذهبه، وأيّاً كان انتماؤه الحزبي أو السياسي أو العقائدي. أكان مسلماً أم مسيحياً، أكان شيعياً أم سنياً أم درزياً، أم مارونياً أم أرثوذكسياً أو ملحداً أو غيره… فلماذا يُؤثِر البعض اللعب على الوتر الطائفي، ويعمل على تحريك العصبية الطائفية المقززة البشعة وتأجيجها، في كلّ مرة توقف السلطات القضائية والأمنية أحد رجال الدين أو غيره للتحقيق معه، استناداً لمعلومات دقيقة وأدلة دامغة أكيدة، تثبت تورّطه وضلوعه في مخططات إرهابية، وبعد توقيفه تثور ثائرة «المحبّين للوطن وأمنه، وسلامة شعبه».
كفى مهزلة وانحطاطاً في طريقة التعاطي مع مسائل حيوية حساسة ترتبط أولاً وأخيراً بأمن الوطن واستقراره وسلامة مواطنيه وتهدّد وحدته ونسيجه الوطني.
ما هو الأهمّ لهؤلاء المصابين بعمى البصيرة والتبعية والعصبية، إطلاق سراح مجرم، أم تعريض شعب للقتل والاقتتال، والاستمرار في دورة العنف والإرهاب، والفعل وردّ الفعل والتي لن توفر طائفة من الطوائف، أو مواطناً أو زعيماً «غيوراً» على مشبوه أو مجرم، هو أصلاً على لائحة المستهدفين من قوى الإرهاب؟!
منذ سنوات قليلة، أوقف بالجرم المشهود عميل للعدو الإسرائيلي، ورغم أنّ الأدلة الدامغة قادت إلى إصدار حكم قضائي بحبسه، وجدنا العصبية الطائفية تطفو سريعاً على سطح الوطن، وتتحرك بجهالة لتضفي على هذا العميل كلّ صفات الإيمان والوطنية والشرف، وكأنّ حكم الشعب الصادر عن القضاء جاء ضدّ طائفة يحمل في طياته ظلماً وتعسّفاً وجوراً وافتراءً لا أساس له من الصحة، بحق هذا العميل الذي مهما بالغ فيه أزلامه وقالوا فيه من المديح المعسول، فسيبقى اسمه مسجلاً على لائحة الخيانة والعمالة، ولن تمحو صورتُهُ عار ما ارتكبه بحق وطنه وأمته وشعبه.
أن تُنصب الخيام مجدّداً للاحتجاج على توقيف مشبوه، فهذا مستغرب ويثير علامات استفهام كثيرة، بعد أن ذهب القضاء لعنده، ولم يأتِ هو للمثول أمام القضاء. وهذا أمر مستهجَنٌ وغير مقبول، إلا إذا كانت السياسة والسياسيون يريدون هذا… فما الذي يريده هؤلاء المعتصمون؟! هل يريدون وطناً سائباً للذئاب والوحوش البشرية، يغضّون البصر عنهم عند الحاجة. وحوش تقتل وتدمّر وتفتت النسج الوطني والاجتماعي للبنانيين وعيشهم المشترك؟! أم يريدون وطناً سليماً يكون فيه للقضاء والأجهزة الأمنية المسؤولية في الحفاظ على الأمن، وأن تلقي القبض على كلّ من تسوّل له نفسه العبث بالاستقرار وبحياة الناس أياً كان موقعه، وانتماؤه الديني والطائفي والفكري والسياسي والعقائدي؟!
العدالة والقانون فوق الجميع… أياً كان موقع المواطن أو المسؤول… أكان رجل دين أو رجل دنيا، أكان سياسياً، أو زعيماً أو مدنياً أو عسكرياً. فالقانون ليس وجهة نظر والقضاء ليس مكسر عصا في خدمة المصالح، وليس كيدياً كما يراه البعض. لكن التفكير الطائفي والتعاطي الطائفي هو الكيدي. فكفى التلاعب بمشاعر الناس، وبمشاعر السذّج، ودفعهم للانجراف الطائفي وللسلوك القبلي المتحجّر، الذي يزرع الكراهية في النفوس، والأحقاد في العقول، ويفتت وحدة المجتمع ويهدّد عيشه المشترك.
القاتل يجب أن يحاسَب، والإرهابي يجب أن يحاكَم، والعميل الخائن يجب أن ينال قصاصه، والتكفيري يجب أن يعاقَب، فلا غطاء لأحد أياً كان، ولا تضامناً عصبياً معه، إذا كنا فعلاً نريد الحفاظ على شعب وعلى وطن ينعم بالاستقرار والأمن الحقيقي والفعلي. أما إذا كنا نريد الدفاع عبثاً عن القاتل والإرهاب والتكفيري والعميل والخائن من منطلق طائفي، فعندئذ يصبح الوطن كله رهينة في يد القتَلَة والإرهابيين والعملاء والخونة والتكفيريين.
إنّها مسؤولية أصحاب الشأن من رجال دين قبل مسؤولية المسؤولين والسياسيين. فهم مدعوّون إلى عدم التدخل لتظريف أو تبرئة هؤلاء قبل حكم القضاء. والجميع مدعو إلى رفع الرعاية والحماية والغطاء الكامل عنهم، كي نصون وطناً ونحفظ شعباً، حتى لا يكون يوماً «أسيراً» أو «نعيماً» في يد خلايا القتَلَة والإرهابيين الذين لن يوفروا لا طائفة ولا زعيماً ولا مدينة ولا منطقة.
لرجال الدين والمسؤولين والسياسيين نقول: ارفعوا أيديكم وأصواتكم عن القضاء، و»غيرتكم» عن المشبوهين، واتركوه يحكم ويحاكم بالقانون والعدل كلّ إرهابي عميل وخائن، ولا تؤازروا الخيم الطائفية المشبوهة التي تُنصب هنا وهناك، ولا تجعلوها تحتمي بكم وتستغلّ تعاطفكم معها، وتجعل نفسها الحُكْم والحَكَمَ في تظريف وتبرئة القتَلَة والمجرمين، رأفة بالوطن وشعبه وسلامته.
وزير سابق