القدس… عام على الهبّة

راسم عبيدات ـ القدس المحتلة

الهبّة الشعبية التي انطلقت من مدينة القدس قبل عام في تموّجات صعوداً وهبوطاً كاشتباك انتفاضي ميداني حافظت على مظاهرها العامة الكفاحية، وتنوّعت أشكالها من عمليات طعن ودهس وإطلاق نار، وكذلك احتجاجات شعبية وجماهيرية… تظاهرات، اعتصامات ومسيرات وغيرها وإنْ كانت محدودة وليست بالزخم المطلوب.

«إسرائيل« فشلت في القضاء على النواة الصلبة لهذا الاشتباك الانتفاضي، الشباب الذين شكلوا عنوان وقادة هذه الهبّة الشعبية، رغم كلّ أشكال القمع والتنكيل والعقوبات الجماعية والاعتقالات والإبعادات وهدم البيوت، وسنّ القوانين والتشريعات والقرارات ذات البعد العنصري، والتي تحمل في ثناياها سياسة تطهير عرقي.

أجهزة الأمن والمؤسسة العسكرية «الإسرائيلية«، نشرت تقديرات بأنّ الهبّة الشعبية التي انطلقت من مدينة القدس في الثالث عشر من شهر تشرين الثاني من العام الماضي في طريقها الى الخفوت والموات، وقد اعتمدت تقاريرها وتحليلاتها وقراءاتها وتقديراتها على أنّ التراجع في تلك العمليات بشكل رئيسي في الشهرين الماضيين ضدّ جنودها ومستوطنيها له علاقة بما قامت وتقوم به الأجهزة الأمنية من ملاحقة للمحرّضين على مواقع التواصل الاجتماعي، والتواجد المكثف لقوات الأمن في مناطق وبؤر التوتر، لكن ما حدث من عودة للعمليات في الفترة الأخيرة، والتي كان آخرها عملية الشهيد مصباح أبو صبيح بالأمس في قلب مدينة القدس وبالسلاح الناري، أربك المؤسسة الأمنية «الإسرائيلية« وقيادة الجيش، فعمدت إلى تبرير ذلك بالقول بأنّ فترة الأعياد اليهودية تشهد عمليات تصعيد، ومثل هذه التوقعات سادت قبل العملية التي نفذها الشهيد أبو سرور قبل حوالي أربعة أشهر في باص «إسرائيلي« في مدينة القدس، مما يدلّل ويؤكد أنّ القراءات والتحليلات والتقديرات «الإسرائيلية« لا تلامس الجوهر والأسباب الحقيقية لاستمرار وتواصل الهبات الشعبية الفلسطينية هبوطاً وصعوداً، بل إنّ عوامل تغذيتها ومواصلتها مرتبطة بشكل رئيسي بما يجري على الأرض وتصاعد حالة القمع والتنكيل والعقوبات الجماعية التي يتخذها ويمارسها الاحتلال بحق شعبنا الفلسطيني، واضح بأنّ العمل والاشتباك الانتفاضي يأخذ أكثر من شكل، ولعلّ ما يجري في المحيط العربي من حروب وعمليات، وكذلك في دول العالم الأخرى، قد يشكل نموذجاً للشباب الفلسطيني، خصوصاً بأنّ هؤلاء الشباب يشعرون أن لا مستقبل أمامهم في ظلّ وجود الاحتلال، فهناك أفق سياسي مغلق وتنكّر لحقوق الشعب الفلسطيني، بل وإقصاء له من الوجود.

الاحتلال بعد كلّ عملية فلسطينية، يبحث عن المزيد من الإجراءات العقابية والحلول الأمنية بحق الفلسطينيين، تلك العقوبات التي تتمثّل في دفع المزيد من الكتائب وألوية الجيش «الإسرائيلي« الى القدس والضفة الغربية، والعقوبات الجماعية من هدم للمنازل وتقيد حرية الحركة والتنقل للسكان، بإغلاق القرى والبلدات الفلسطينية بالمكعبات الاسمنتية والأتربة والصخور، سحب التصاريح ومنع السكان من الدخول الى الضفة والقدس ومناطق 48 الاعتقالات وتشديد الأحكام بحق المعتقلين، التشريعات بإطلاق الرصاص بهدف القتل، تكثيف الاستيطان وعمليات التطهير العرقي، هدم واستيلاء على المنازل، اقتحامات متكرّرة وحفريات متواصلة حول وأسفل الأقصى الخ… كل هذا يعبر عن غطرسة وعنجهية «إسرائيلية« وعقلية أمنية يقودها وزير الدفاع «الإسرائيلي« الحالي ليبرمان ومعه المؤسسة الأمنية من «شاباك« وغيرها بأنّ العرب، والفلسطينيون منهم، لا يخضعون بالقوة، لكنهم يخضعون بالمزيد منها، وأنّ ظروف وواقع الفلسطينيين الضعيف والمنقسم على ذاته، وما يحدث من تطورات على الساحة العربية من حروب مذهبية وطائفية وانتحار ذاتي وتقدّم الهمّ القطري على الهمّ القومي، والتطور في العلاقات «الإسرائيلية« مع ما يسمّى بالدول السنية العربية نحو التنسيق والتعاون والعلاقات العلنية، وتعطّل الإرادة الدولية وعدم قدرتها على فرض حلّ سياسي على «إسرائيل«، من شأنه أن يمكّن «إسرائيل« من فرض استسلام على الشعب الفلسطيني، أو «سلام إسرائيلي« قائم على شرعنة وتأبيد الاحتلال مقابل تحسين شروط وظروف حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال وبتمويل عربي وأوروبي.

كلّ هذه العقوبات الجماعية والإجراءات والممارسات القمعية «الإسرائيلية« بحق الفلسطينيين وما يستتبعها من قرارات وتشريعات وقوانين لوأد الهبّة الشعبية وكسر وتحطيم الإرادة الفلسطينية، ودفعه للتخلي عن الصمود والبقاء ومقاومة الاحتلال الصهيوني، وقبوله بالمشاريع «الإسرائيلية« أثبتت التجربة بالملموس انها تفشل، وأنّ هذه العقوبات تقول لصناع القرار «الإسرائيلي«، انه مهما تعاظمت قوة «إسرائيل«، ومهما طغت وتجبّرت فإنّ هناك محدودية القوة «الإسرائيلية«، وبأنّ تلك العقوبات لا تخرج عن النسق المتوقع، وبصرف النظر عمّن يقود السياسة الأمنية «الإسرائيلية«.

الاحتلال بأجهزته الأمنية وبكلّ ما يمتلكه من خبرات وأجهزة تجسّس وتكنولوجيا متطورة، وعمليات تنسيق أمنية، بدا غير مسيطر على الوضع أو لا يمتلك المعلومات الكافية عن الوضع الأمني في الضفة الغربية. وهناك عجز في رصد العمليات ووقفها او إفشالها، حيث النسبة الكبيرة تنفذ، بعكس العمليات التي أتت في إطار تنظيمي، فهي تمكّن من إحباط معظمها قبل تنفيذها، وهذه العمليات التي عادت مجدداً في فترة عيد الأضحى، وسقط فيها العديد من الشهداء «المتهمين« بتنفيذ عمليات طعن أو دهس وإطلاق نار وغيرها، والتي كانت آخرها عمليتا الطعن وإطلاق النار اللتان نفذهما الشابان ايمن الكرد من رأس العامود في منطقة باب الساهرة بالقدس ومصباح أبو صبيح، في منطقة الشيخ جراح بالقرب من مقر شرطة الاحتلال، تلك العمليتين كبّدت «الإسرائيليين« قتلى وجرحى، والمسألة ليست في الثمن البشري، بل لأنّ هذه العمليات تحمل رسائل واضحة لـ«الإسرائيليين« بأنّ الحلول لا تكمن في الجوانب الأمنية والتنكّر للشعب الفلسطيني وفرض الشروط والإملاءات عليه، بل لا بدّ من الاعتراف بحقوق شعبنا الفلسطيني وحقه في الوجود والبقاء والعيش بحرية وعزة وكرامة بعيداً عن الاحتلال، فلا يمكن لشعبنا الفلسطيني أن يقبل بأن يستمرّ الاحتلال جاثماً على صدره، فلم يعرف التاريخ لا بقديمه او حديثه شعباً خان قضيته وتنازل عن حقوقه أو تخلى عن أرضه.

عملية القدس الأخيرة تعيد القدس لتصدّر المشهد الانتفاضي من جديد. هذه المدينة التي يعمل المحتلّ على عزلها عن محيطها الفلسطيني ديمغرافيا وجغرافياً، وممارسة كلّ أشكال التطهير العرقي والعقوبات الجماعية بحق سكانها، تثبت كلّ يوم بان رغم كلّ حالة الضعف الفلسطيني، فالحلقة المقدسية عصية على الكسر، وأن مهما استقدم المحتلّ من تعزيزات عسكرية وشرطية وبطش ونكّل بهم، فلن ينجح في كسر إرادتهم، وان لا مناصّ امام المحتلّ سوى الاعتراف بحقهم في الوجود، حقهم في أن تكون لهم دولة ترعاهم وتهتمّ بشؤونهم ومستقبل أبنائهم، دولة فلسطينية تكون قدسهم عاصمتها، فالمشهد المقدسي مرشح للمزيد من التصعيد في ضوء ما تقوم به حكومة الاحتلال بشنّها لحرب شاملة عليهم، تطال أرضهم تهويداً وبشرهم أسرلة، وكلّ ما يتصل بذلك من تجسيدات مادية من برامج وخطط ومشاريع وآليات تنفيذية لتحقيق ذلك.

Quds.45 gmail.com

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى