على درج العقيق

نجاح إبراهيم

هل قبّلتَ يوماً درجَ العقيقِ النضيد، وشغفتَ بنثارِ الكلم؟

هل فعلتَ كما فعلَ من أرّث أغاني القبة غوايةً لكلّ من يتعقّب الجمالَ والوهجَ؟

هل وقفتَ مثله، طويلاً عند سورة «إياز» الناضحة بالشهوة لسلطان يبيعُ «سمرقند» لأجل خالٍ على خدّ غلامه ، ففاض عشقاً حتى تحوّل إلى شاعرٍ؟

إنْ لم تكن كذلك، ولم تفعلْ: واظمأ قلبك!

تعال الآن وكنْ مثلي.

امتطِ الدّهشة، وتوضأ بماءِ السّحر، سأفجرُ كلّ ما بي من رغبة في كتابة ما أحسستُ به عند قراءتي لكتاب الأديب طلال مرتضى «قراءات تغوي الرّيح» الصادر عن «مؤسّسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع» ـ بيروت.

فلأعترف بادئ ذي بدء،

أنني عنّفت نفسي كثيراً حين أرجأتُ قراءتي الكتاب بعضاً من الوقت، لانشغالاتي الكتابية، وسفري، ولوباني. بيد أنني هرعت إلى متنه، يجتاحني شوقي الجموح، لأغرفَ من بحرِ فيضه، وأقول كلمتي.

إلّا أنني وقفتُ هنا حائرة أمام الأسطرِ، حبري متوجّس، وروحي تائقة، ولكن؟!

كيف أبدأ الكتابة عنه، كيف أكتبُ العقيق؟

هل تدري أنتَ كيف سأصعد درجاته؟

كيف ألهث وراء سطور المؤلف؟

لقد حرت أمام هذا الوهج البرتقالي الصّارخ باللون والطعم والرّائحة.

إن الأمر لا شكّ فيه صعوبة، هذا ما أشعر به حقيقة. أنبشُ خزانة أفكاري فأعود غيرَ مرة بالخيبة، يجفّ حلقي.

هل من رشفة ماء؟

أخرِجُ بمقولة لنزار قباني قالها عند كتابته للشعر الذي يجيء بصعوبة: «إنها الصّعوبة نفسها التي تعترضُ الوردة حينما تحاول أن تشتمّ عطرها، والفم حين يحاول تقبيل نفسه».

ما زلتُ حائرة أمام هذا الزّخم الجمالي في مقالات الأديب «طلال» النقدية، أقتطع كلامَ المؤلف من الكتاب، أتخيّله يقول لي ولغيري ممن يشابهني في الحيرة: «ولماذا تدخلون في الحيرة، الآن تخلعون الورقة الأولى من روحي، وعلى أحرّ من الحبر يعبرني الضوء».

سأتسلحُ الجرأةَ وأطعنُ ما أشعر به، لأقف مستغربة أمام إحدى المقدّمات للكتاب، والموقعة بِاسم الدكتور نضال الصالح، التي نمّت عن مروره مروراً سريعاً بالكتاب، فاقتصرت كتابته عن المؤلف فقط من دون التعمّق بالمقالات التي تأسرُ عابرها، فلا تتركه مغادراً إلّا رافلاً بجؤن العطر والبهاء.

وأجزم أنّ هذه فرصة قد أفلتت من يد المقدّم الصالح، وكثيراً ما تفلت خيوط النور من بين الأصابع المنفرجة، خصوصاً إنِ استحال هذا النور إلى ورود تتفتحُ كلّ حين بالألق.

«قراءات تغوي الريح» درجٌ من العقيق تلاحقُ فضاءاته ريحٌ في كلّ الاتجاهات، تعرضُ لك ما تمدّد أمام عينيّ طلال مرتضى من قصّ ورويّ وقريض، فيقاربها شغفاً وتأمّلاً، ثمّ يمضي نافحاً الرّوح والمعرفة فيها، منطلقاً إلى نتائج مخضبة بعطرٍ مشرّع, يحاورُ حقيقة الكتابة ـ نعمة أم نقمة ـ عند من لهم نتاجٌ أدبيٌّ بعين المثقف الواعي، المبدع، يغويك كما تغوي هذه القراءات الرّيح، يتركُ بين عينيك دهشة، وفي خبيئة نفسك غبطة… ولن أقول حسداً.

لن تحسد طلالاً أليس كذلك؟

فهو طيّب القلب، دؤوب ومؤمن بقضية الحبر سلاحاً من أجل جمال منشود، وإنّما ستغبطه.

بينما أروحُ لأواكبَ هاجسه النبيل، وأجوس عوالمه وأكوانه، من خلال ما سطّر من قراءات استمدتْ نبضها من النصوص، اخترقت أعماقها وخرجت بأسئلة مثقلة بالأهمية، لتمضي نحو سارية الإبداع، غير بعيدة عن النقد، وإن ودّ الأديب طلال أن تجيء قراءته بشكلٍ آخر، مغاير ولافت، نقد لا يشبه النقد المتخشب، المريض، إنما يشبه كوكباً أسطورياً ساحراً، تواكبه كأنما تواكبُ رتمَ الشعرِ، يؤثرُ فيك، يمشي في أعصابك كأنما هو سذاب يسحرك!

في «قراءات تغوي الرّيح» يغترفُ طلال مرتضى حفنة من ضوء موجودة في النصوص، ليحيلها بعد كتابته عنها إلى مجرّات من ضياءات، متكئاً على ثقافته وتجاربه واشتغالاته، وقدرته على التأويل، هو الذي شرّع الاتجاهات للرّيح، ليضيف إلينا ـ نحن المغويين بالحرف المبدع ـ إبداعاً نبيلاً يشبعُ حبره، ناهيك عن اللغة التي تبدو كلّ حين مترفة بحضورها البهي، سيدة عالية القامة، تضنّ على الغيابات بالغيابات. فحين أدهشته لغة «محمد آل فاضل» فقال عنه: «المتمادي في اللغة، يدلفُ من بابها المشرع على أوجاعنا، كحامل مسك، يرشّ شذراته مطمئناً بعد أن نقاها من أنفاس نافح الكير المؤرّق، فتح مزاد الكلام على مصراعيه بوح رهين الليالي ليشي ناكزاً بأنه لم يزلْ هناك متسع من أمل».

ولعلّ ما يلفت الانتباه، مطلع كلّ قراءة له للنصّ، إذ يستطيع أن يمسك بالقارئ لكي يستمرّ، وتزهر الكتابة بين عينيه، فيعيد القراءة ليرفلَ بالتأويل والفائدة والمتعة، ففي قراءته عن نصّ «أحمد فواز» في كتابه «سيف الياسمين» وهو عبارة عن خواطر, نجده يهب عنواناً لافتاً هو «حين يستباحُ الوطنُ بسيف الياسمين» فهل لأحدنا أن يمرّ بهذا العنوان مروراً عابراً؟!

ثم يقول في المقدّمة التي أشرت إليها: «حين يصيرُ الياسمين سيفاً، لا بدّ من أن موازين الأرض قد خلت، كيف للنداوة، للنعومة، للنصاعة، للفوح العابر في الرّوح، للشهيق المثقلِ برذاذِ النشوة، أن يتحوّل إلى نصلٍ أو مديةٍ؟» ص37 .

إنّ من يقرأ هذا المطلع الدّاهش سيتساءل إن كانت اللغة هي التي أدهشته، أم الفكرة، أم… أن تخاتله لأنّ فضاءات من الشعر قد انفتحت أمامه، تروح به نحو أقصية لا جهات لها، تغرقه غواية لعبة الحروف، فيقع فريسة الترف الإبداعي، فيغترف معلناً أنّ طلال مرتضى صّياداً ماهراً لقرائه.

ما الذي يجعله أن يكون كذلك؟

في قراءة أخرى لديوان شعر بعنوان «مرّوا عليّ» يجيبني بدهائه المعهود، دهاء المترف بالموهبة والدراية، يقول: «هي الغواية، أن يكتبك النصّ، يدخلك في بابه العالي مزهوّاً ببهاء معناه، وعلى رغم علائقه المشحونة باليتم والفقد والرّحيل، وحين تسمو اللغة على جراحها ويصيرُ الوطن المنهك ملعباً تفيض، تتشكل أنهاراً مشتهاة أسّها دمعة حارقة».

تغوينا دمعتك التي لها صوت.

هو صوتك، يأخذنا إلى أعالي الشجر، والزقورات الفراتية، والأفق المزركشِ.

صوتك، الذي يعلو كلّ نصّ تؤرّثه بذوب نبلك ووفائك له ولصاحبه.

أؤمن إيماناً كبيراً أنّ النصّ ـ أياً كان ـ حين يمتثل بين يديّ القارئ، أو الناقد، يكون حاملاً معه جيناته وحياته وبذور ديمومته أو موته، وما على الجانب الآخر سوى أن يهبه ضوءاً، أو قبراً، وطلال في كلّ قراءاته، أعطى الكثير من الضوء، إلّا ما ندر، لمن وقف حيال نصّه واستفزه بتقزّمه، ومع ذلك لم يتحول إلى عامل هدم، وإنّما بثَّ فيه القوّة ليتخطى الهنات ويمضي إلى أعلى.

وعلى صغر حجم القراءة، إذ لم تكن القراءات في الكتاب طويلة، لتدرسَ كلّ نواحي النصّ الفنية والأسلوبية، أجد أنّ الناقد قد امتلك أعلى كمالٍ للتأويل، وذلك حين تفهّم فهماً أفضل من فهم الكاتب ذاتَه ـ نصَّه ـ كما قال «شلاير ماخر»

إذن.

في «قراءات تغوي الريح» دعوة نبيلة إلى قارئ غير عادي، قارئ فاعل يتلقى القراءة الجديدة للمؤلف ويتفاعل معها، بل ويفعل فيها، فيكتشف ويخلق ويبدع.

إذ في كلّ قراءة لن تقف عند هذا الحدّ من التفاعل الجميل والموحي، وإنّما ستجدُ نفسك ضمن حركة تفاعلية مستمرة، تارة تقفُ عند لغة باذخة التحليق، وأخرى عند مواجهة التأويل وانفتاحاته.

والكاتب في قراءاته يضعك أمام بستان فيه ما طاب لك من أنواع القصيدة، ومن السّرد والمقالات والخواطر والدراسات، ولا ينسى أن يقدّم لك في كلّ منها شعرية الحالة، التي نحتاج إليها لغة وعاطفة وأدباً، ليظهر الشكل الفني، ويبيّن وجه الإبداع اللامع، والإيغال في جوانيات النصوص المقروءة، واستشراف العلائق التي يتضمنها كلّ واحد في خطوطه.

فثمة إصدارات قال الناقد إنه يقرأها بعين العارف، ولم يغالِ حقاً، فالنصُّ المقروءُ يُدخله في عينيه وقلبه وعقله، يتركه مفتوحاً، يعايشه معايشته لمتون حكايته، ليستخرج نار الإدهاش، ليصبح نصّاً مدهشاً بدوره، إن لم يتفوق عليه بغناه، والتماع مفاتيح أسراره أمام العيون، حيث يأتي هذا الغنى من صفات وملامح كثيرة، يرفلُ قطعة أدبية، أو نصّاً مستقلاً بحقيقته وقوته وجمالياته، مرجعيته النصّ المقروء ولغة الناقد المتوهجة ونبضه وثقافته التي لا تحدّ.

فطوبى لمن يدفع بنصٍّ له إلى طلال مرتضى!

أستذكر عبارة هاملت في المسرحية المعروفة «هاملت» لشكسبير، يقول: «طوبى للذين امتزجت فيهم نار الدّم برجاحة العقل».

كذا هو مؤلّف كتاب «قراءات تغوي الرّيح»، تمتزجُ في حبره نارٌ أرجوانيّة، برجاحةِ عقلٍ وفكرٍ.

طوبى لدرج العقيق.

أديبة وناقدة سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى