قالت له
قالت له
قالت له: كيف ينساب الحبّ بين الحبيبين إذا دخل العقل بلغة التقييم والتحليل وصار شريكاً، واندلع الجدل ليجعل من سلّم التصاعد في الكلام حدّ الاتهام؟ وصار التراجع صعب المنال؟ وتحوّل الودّ إلى خصام؟ وعاد الحبّ بدفق سيله الجارف يمحو ما كان واستعاد الأمان؟ وتتكرّر الحال والشكوى محورها واحد في كل مقال؟ لماذا تغيّر منسوب الاهتمام. مرّة بكثافة التواصل ومرّة بحرارة الكلام ومرّات بالاكتفاء بالسلام؟ وكأن الحبّ زاد الغربة بدل القرب بين الحبيبين. والحبّ استثمار في الوقت بين قلبين.
فقال لها: تقحمين العقل كسبب لخراب أو تضعين الحلّ بالعتاب، أو تريدين في الحبّ لكل سؤال جواباً. وتحوّلين ما بين الحبيبين إلى محضر استجواب. فهل تتركين مجالاً لاستماع منصف لا مكان فيه للردّ على الردّ وردّ الردّ والسجال؟ وترتضين استماعاً بالتذكّر لا بالتفكّر، وتصير المقارنة الضوئية لصور الماضي المتنوّع هي دليل الحال وما تصفينه بالتغيّر؟
فقالت: لك ما تريد. فأنا والله لا أريد من الألم المزيد. فجلّ ما أسعى إليه أن أستلم أوّل الطريق وأن أخرج من هذا الحريق.
فقال لها: عندما كنا بلا دفتر شروط للحساب وكنّا بلا بنود ولا قيود وحتى قيد حسابات ولا سلّم حقوق وواجبات، وتغيبين أو أغيب، كان يكفي واحدنا بعد الغياب أن يطمئنّ على الحبيب، لا أن يحقّق أو يشكّك في سبب المغيب. أو يتحوّل إلى قاضٍ يريد كلّ الحكاية ويتساءل عن تسلسل أحداث الرواية، ويدقّق ويحقّق في كلّ بندٍ وارد ويقارن درجة الأهمية قياساً بما كان عليه في تلك العشيّة من قلق واحتباس. وليس عدلاً أن يكون كل شيء للقياس. فكلّنا بشر ونغفو ونسهو. وكثيراً ما تمنحين في أوقات انتظاراتي وقتك لأشياء تافهة بحسابي لكنّها في حينها ترد بحرارة الرغبة في حسابك. وليس في، بل على حسابي. وهنا يدخل العقل الذي تقولين إنه يخرّب وهو بالفعل يجرّب أن يضبط لحساب الأنا كلّ المواقع ويضعك في موضع تلقّي المواجع، وتصدقين إن غبت أو انشغلت أنك الأمثل وأنك الأفضل فتقولين بلغة التهكّم مرّة إن كان يهمك أن تكلمني فأنا أنتظر، ومرّة إن كنت تشتاق فعلاً فانتظرني، ومرّات لماذا تغيّرت وتبدلت، وأحياناً يكون زمن ما بين الغرام والاتهام فاصلة وتكونين من لحظة الشغف الحاصلة تنثرين الورد للمشاعر الواصلة. تذكري أن الجدل عقيم ومرض سقيم وأن العفوية أصدق التعبير، والطريق الذي يمنع التغيير، وأن الحرية في الحبّ عافية وأن التعب من الوقت الذي يصير عتاباً متصلاً حياة قاسية. وضعي في البال أن الإحساس بالغربة كالإحساس بالقرب لا يحتاج إلّا إلى الزمن ليتبيّن بياضه من السواد. وعندما ينتهي زيت الحبّ يقع وحده البعاد. فلماذا استعجاله بالعناد؟ وأن سحابة صيف إن مرّت دعيها تمرّ بلا تحليل وتمحيص للأسباب، فستظهر بالتكرار أو لا تظهر كفعل تغيير مثابر أو مجرّد مظهر عابر. الحبّ مثلنا، مثلك أنت تحديداً صيف وشتاء وربيع وخريف، وليس بينها موسم للأفول. فكلها مواسم فرح إن غاب الميل للأمان والإدمان لحساب الحنان، فالحبّ لعبة التذكر لكنه لعبة النسيان والأمان والحنان لا يجتمعان. فالحبّ حنان قلق والأمان احترام لبق.
فقالت له: أريدك لبقاً وقلقاً، وأريد الحنان والأمان، ولن ينفع معي النسيان.
فقال لها: تعالي سيدتي قارئة الفنجان. فماذا ترين؟
فقالت: في قعر فنحان عينك مشروع خيانة لكنها غائمة وغامضة.
فقال لها: أترحلين أم تشربين قهوتي؟ وكي تقبل نفسك تعصرين فيها حامضة؟
فقالت: أريد قهوتك من شفاه نابضة لا من كلمات رافضة.
فقال: أغمضي العين اليمنى وافتحي اليسرى، وامسكي يد اليسرى وافتحي اليمنى. فقالت: فعلت.ففعل العكس، وقال هكذا هو الحبّ، أن نتقابل لا أن نتماثل. فقبّليني.
فقالت: لا، أنت قبّلني، ولا تطلب منّي القبول… فهذا هو الحبّ لا مكان فيه للعقول. ليس في الحبّ تبادل ولا في الحبّ تعادل. بل فرح العطاء بلا مقابل.